كتب علاء أبو عامر: نجاح روسي متعثر في أوكرانيا

2022.04.20 - 09:18
Facebook Share
طباعة

 حاولت الدعاية الإعلامية الروسية منذ بداية الحرب على أوكرانيا يوم 24 فبراير/ شباط الماضي، توجيه الرأي العام الروسي إلى أن الحرب، أو ما سمّتها العملية العسكرية الخاصة، تهدف إلى حماية السكان الناطقين بالروسية من القمع والاضطهاد ممن تسميهم روسيا جماعات القوميين المتطرّفين النازيين الأوكرانيين، الأمر الذي جعل الحرب تحظى بالدعم والتفهم الجماهيريين، مع وجود آخرين يعارضونها بشكل عام، ومنهم من تظاهر ضدّها في شوارع موسكو، إلا أن هذا الشعور بإنقاذ أبناء القومية الروسية وحمايتهم كان مجرّد شعارٍ للحشد، إذ تخطّته الحرب ومساراتها في واقع الأمر.


لهذا السبب، انشغلَ ‏المحللون العسكريون على شاشات الفضائيات العربية والعالمية وارتبكوا، وعلى مدى أكثر من شهر من عمر الحرب، بتقييم المسار النهائي للعمليات العسكرية الروسية داخل حدود جمهورية أوكرانيا، وقد توقعوا سيناريوهات مماثلة لعملياتٍ عسكريةٍ كبرى مستوحاة من الحرب العالمية الثانية، مثل معركة كورسك (1943)، بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي. وتوقع بعضهم السيطرة الروسية على مقاطعة نيقولايف الجنوبية (ميكولايف بالأوكرانية)، مقدمة للسيطرة على الطريق السريع الواصل إلى مدينة سومي في الشمال، ومن خلالها يجري شقّ أوكرانيا من المنتصف، وبالتالي تُربط الأجزاء الشرقية من أوكرانيا مع أجزاء من الوسط بما في ذلك المدن الكبرى؛ كييف وخاركوف ودنيبروبتروفسك.


ولكن سير العمليات المُعلن عنها من روسيا يتنافى مع تلك التقييمات التي كانت تفتقر لأي أساس من التقييم الموضوعي للسياسة الروسية في أوكرانيا، حيث كان هدف التحرّك العسكري الروسي، وما زال، يتمثل في السيطرة على شرق أوكرانيا وجنوبها وصولًا إلى مدينة أوديسا؛ الميناء الاستراتيجي على البحر الأسود. ومن تابع تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عند إعلان العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وتابع كذلك ما قاله المحللون العسكريون والسياسيون الروس لاحقًا، لاحظ أن الهدف الأول من العملية مساعدة جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين بعدما طلبت الجمهوريتان من روسيا المساعدة. والهدف الثاني المعلن أيضًا مساعدة الأوكرانيين الناطقين بالروسية وحمايتهم مما وُصف تمييزا عنصريا ضدهم وضد لغتهم الروسية. والهدف الثالث اعتراف أوكرانيا بحق روسيا في شبه جزيرة القرم. هذا بالإضافة إلى الأهداف ذات الطابع الأمني الدفاعي، أهمها منع أوكرانيا من الانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتصفية العناصر الأوكرانية النازية، ونزع سلاح الجيش الأوكراني.


وعليه، لم تكن ضمن الخطة الروسية الأصلية استراتيجية حربية لاحتلال أراضي أوكرانيا (603 كم²) كلها، بل مناطق الشرق والجنوب فقط التي تتميز عن غيرها بأنها ذات كثافة سكانية للناطقين بالروسية، وعددهم يتجاوز العشرين مليون نسمة، وهم يمثلون قرابة 40% من السكان الأوكرانيين. كما تتميز هذه المناطق ببعدٍ جغرافي، حيث إنها محاذية لحدود روسيا في الشرق، ومجاورة للمنطقتين الانفصاليتين، دونيتسك ولوغانسك، ومجاورة لشبه جزيرة القرم الانفصالية من جهة الجنوب. إضافةً إلى أنها تشمل مناطق صناعية ومصادر طاقة وثروات طبيعية وموانئ استراتيجية. وإذا نظرنا إلى مناطق السيطرة الروسية الرئيسية حتى اليوم، نجدها في هذه المناطق تحديدًا. لكن هل يعني ذلك أن القوات الروسية لو استطاعت دخول المدن الكبرى لما دخلتها؟ الجواب نعم بالطبع، إلا أن هذه القوات اصطدمت بمقاومة شرسة في كل المدن من سومي مرورًا بخاركوف ودنيبروبتروفسك وزبروجيا ونيقولايف، والأهم في العاصمة الأوكرانية كييف، ووقع في صفوفها آلاف القتلى والجرحى، إضافةً إلى رفض السكان الأوكرانيين الناطقين بالروسية غزو مدنهم. وبالتالي رفضوا وجود القوات الروسية في مدنهم، وقابلوها بمظاهرات حاشدة مندّدة بالغزو في خيرسون وخاركوف وغيرها، وطالبوا الرئيس بوتين بسحب قواته وإعادتها إلى بلادها. وهذا هو الفشل الأكبر.


وعليه، هناك مكان للحديث الغربي والأوكراني عن فشل العملية العسكرية الروسية سياسيًا وعسكريًا. تؤكد الوقائع على الأرض ذلك، لكنه حديثٌ مبالغ فيه، وأقصى ما يمكن قوله إن العملية تعثرت نتيجة المقاومة الشرسة من الجيش ووحدات المقاومة الأوكرانية، وبسبب إشكالات على مستوى الدعم اللوجستي ورفض السكان، روسًا وأوكرانيين، الاحتلال. لكن ما نستطيع تسجيله أيضًا أنها، وعلى الرغم من التعثر هنا وهناك، قد حققت جزءًا كبيرًا من أهدافها وما زالت تسعى إلى الباقي، رغم كل الخسائر التي تكبّدتها في أرض المعركة والعقوبات الاقتصادية التي فُرضت عليها ومقاطعة المجتمع الدولي لها.


تقاتل القوات الروسية ظاهريًا بوصفها تساعد الجمهوريتين الانفصاليتين، وهي بهذه الصفة تحتل الأراضي وتسلم إدارتها لممثلي هاتين الجمهوريتين. وبالتالي، تضم الأراضي الجديدة المسيطر عليها، إذ ستُسجل أراضٍ للانفصاليين؛ أي ستبقى شكليًا أراضي أوكرانية لكنها انفصالية عن الدولة الأم. وستحاول روسيا في المفاوضات القائمة أن تطرح على الأوكرانيين الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين بحدودهما التي تقرّرها الدبابات الروسية. الواضح حتى الآن أنها ستشمل إقليم دونباس وخيرسون والقرم، وربما أوديسا لاحقًا، فهي ما زالت تحاول كسر عقدة نيكولايف. وهاتان الجمهوريتان روسيتان لغةً وثقافةً، وأوكرانيتان تاريخًا وجغرافيا، وفي حال نجحت المحاولات الروسية، سوف تُعيد فرض الروسية لغة ثانية في الدولة، وتفرض على أوكرانيا الدولة الأم التحوّل نحو النظام الفيدرالي الذي سيكون للجمهوريتين الانفصاليتين حق النقض (الفيتو) فيه على أي سياسة معادية لروسيا، وهذا ما سيغير وجه أوكرانيا. هذا هو السيناريو الأول والمعلن من موسكو، وهو ما يُفسر تمسك موسكو باتفاقات منسك (2015) سابقًا، وتخليها عنها مع بدء الغزو.


هكذا كانت الخطة الأصلية عند بدء الغزو، وتعزّزت بسبب الإخفاقات المتكرّرة في المدن الكبرى شرقي نهر الدنيبر. ولكن طرأت عليها، كما سُرّب من لقاءات إسطنبول، موافقة روسيا على التوجه الأوكراني بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهذا تغير كبير إن حصل فعلًا، ويعني أن روسيا ترغب في تقسيم أوكرانيا، لا في تغيير طابعها السياسي فقط. وكان مسؤول أوكراني قد صرّح بهذا السيناريو الثاني، مشيرًا إلى أن روسيا ترغب في تحويل أوكرانيا إلى حالٍ تشبه حال الكوريتين.


ووفق المعطيات على الأرض، حققت روسيا أغلب الأهداف العسكرية، ولو جزئيا، فالهجوم ما زال مستمرًا لتحقيق ما تبقى وهي مسألة وقت. أما الأهداف السياسية فهي العقدة، ويبدو أن من الصعوبة بمكان تحقيقها، وإذا تحققت فسيكون ذلك عبر اتفاق شبيه باتفاق أوسلو الفلسطيني – الصهيوني، ظاهره خير وجوهره شر، أي استسلام مستتر بورقة توت. لذلك يؤكد الطرف الأوكراني على أن أي اتفاق مع روسيا سيخضع للاستفتاء. ومسألة الحياد بحاجة لضمانات حصلت أوكرانيا على بعضها، وأهمها ما زال من دون رد؛ أي الضمانات الأميركية، فالولايات المتحدة لم تجب على طلب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بهذا الشأن. وهذا يعني أن أوكرانيا، آجلًا أم عاجلًا، ستقبل باتفاق مؤلم، لن يُحقق سلامًا، بل سيوقف التدمير والخراب والتشريد والقتل، ولن تكون هناك أي نتائج إيجابية منه، اللهم سوى الحفاظ على الدولة التي لن تكون كما هي بعد الاتفاق، بل حتى كما كانت قبله أيضًا، فالحرب غيرت كل شيء. أما البديل عن ذلك فهو استمرار الحرب، واستمرار المأساة الأوكرانية إلى أجلٍ غير مسمّى. وفي تلك الأثناء، تكون روسيا قد ضمّت فعليًا ما احتلته من مدنٍ وأراضٍ. وما بقي يكون تاريخًا وذكريات وأحقادًا، وعالمًا سيتخبط في ما كان وكيفما يجب أن يكون. تغيّرت أوكرانيا الدولة وشعبها، وغيرت معها أوروبا ونظرتها إلى نفسها، بل واستفاق العالم على حقائق جديدة ستغير طبيعة النظام الدولي لاحقًا.

 المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 3