كتب عبدالله هداري: الحرب الأوكرانية ومفهوم القوة اليوم

2022.03.26 - 07:47
Facebook Share
طباعة

 الحرب حدث مأساوي كاسح، تتفطر له القلوب والعقول، ويسلب الحياة من كل شيء، فتصير الأرض غير الأرض، ويتحول الإنسان إلى أكثر الكائنات فتكا بنفسه وبالأناسي الآخرين. هذه الأمور يعلمها الجميع، ولكن ما الذي تغير اليوم في اقتحام روسيا أوكرانيا واستعمالها القوة بدل الدبلوماسية؟ ثم ما علاقتنا، نحن شعوب المنطقتين العربية والإسلامية بذلك؟


للإجابة، لا بد أن نستحضر قسرا ربيع الديمقراطية في المنطقة، إذ بدون المرور على أحداثه وتغيرات الوعي التي طاولت شعوب المنطقة خلاله، وكذلك الوعي الذي مثلته تلك اللحظة نفسها، لن نستوعب الصورة كاملة، حيث جسّد كثيرون من أبناء المنطقة في الربيع تحرّكهم الفعلي والسلمي الأول، الذي مثل وعيا مفارقا لسابقيه من وعي الحركات الجهادية الإسلامية أو الثورية العنيفة اليسارية. على الرغم من أن تحرّكات هؤلاء، وتحت وقع العنف الذي استعملته الأنظمة تجاههم، وتدخل بعض الدول، حوّلت حراكات تحرّر كثيرة إلى مقاومة، وأمامنا النموذجان السوري والليبي. ولعل الأول يرتبط بروسيا كما نعلم، والتي تدخلت بطرق تقليدية تنتمي إلى عصر القوة العسكرية، جاعلةً الأمر يبدو كأنه مواجهة لما يسمّونه الغطرسة الغربية. وهذه مسألة شديدة الحساسية في الوعيين العربي والإسلامي. على العموم، حصل المُراد واختلط الحابل بالنابل، وبات كثيرون غير قادرين على التمييز بين أطراف القضية، كما حصل في سورية، على الرغم من وضوحها وعدالة ما يطالب به شعبها الذي خرج في اليوم الأول لهدف واحد هو الحرية.


لم تتدخل الدول الديمقراطية بالشكل المطلوب، وتُرك السوريون لمصيرهم، وهو ما خلّف وعيا حانقا على هذا الخذلان الكبير، غير أن اليد الروسية أحسّت بانتعاشٍ كثير في ذلك، بالأخص أمام تباطؤ الفعل الأميركي في عهد أوباما. جاءت بعدها لحظة الانتخابات الأميركية المربكة، فتطاولت اليد الروسية أكثر، الأمر الذي جعل الفكر التسلطي المأزوم يجد تقبلا أكبر عند كثيرين، بعد صعود الجمهوري ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016، فصار عرب ومسلمون كثيرون ينظرون مجدّدا إلى الديمقراطية والحريات وأدبيات التحضّر العالمي والمسار الحقوقي بكثير من التوجس والريبة.


هذه الغطرسة الاستبدادية ينظر إليها المؤرّخون والسياسيون أصحاب النظر البعيد بعينٍ لا تمنحها قيمة فوق اللحظة العابرة، والتي ستعقبها نتائج وخيمة، فما انبنى عليه نظام الديكتاتوريات لا يصنع أمةً أو دولةً أو حضارة، ثم إن تكتلها في عالم اليوم لا ينبني على استراتيجياتٍ بعيدة المدى، بينما لا يحرّكها، في الحقيقة، إلا حسّ تدارك الانقراض الذي يزحف إلى أعناق هؤلاء المستبدّين، وقد جعلنا التاريخ نشهد ذلك بأم أعيننا.


نقول هذا الكلام لنعي جميعا أن ما يحدث اليوم في أوكرانيا، على الرغم من المأساة التي يجرّها على الشعب الأوكراني، فإنه بالنسبة لنا مصيبة قوم فيها فائدة لوعي شعوبنا، حيث جعلتنا سلوكات الغرب، أميركا وأوروبا والدول الديمقراطية الأخرى، نعي حجم التغير الذي طرأ على مفهوم القوة، والذي يأتي التسليح والقنابل في آخر مصافّه أهمية، بينما فكّ التشابك داخل النسيج الاقتصادي من شركات ومؤسسات وبورصات يكاد يكون بمثابة الموت الرحيم الذي قد تجريه على الجسد المريض الذي تودّ إنهاء عذابه، وهذا ما نلحظه اليوم مما تسجله الأرقام من خسائر يومية للاقتصاد الروسي، وخسائر دبلوماسية وخسائر فوق ذلك كله بعيدة المدى سيمتدّ ضررها مستقبلا.


إذن، عندما نعود إلى لحظة بشار التي تغطرس فيها على السوريين، بدعم من روسيا، نعي أنها اللحظة التي لن تدوم، وكما خرج السوريون لإزالته والتقدّم نحو مستقبلهم، فإنهم سيعاودون اكتشاف الطرق لاستغلال ما يحصل اليوم بذكاءٍ تراكميٍّ لم تمله الكتب التي يشكّك فيها مثقفونا التاريخيون، بل جرّاء تراكمٍ ولدته أحداثٌ معاصرة، بدأ خيطها عام 2011، واليوم يفضح عن سرٍّ آخر من أسرارها الفعلية والملموسة في مفهوم القوة العالمية، ومسار البشرية.


لتجد مكانا بين هذه القوى العظمى، عليك أن تشابك نظامك الاقتصادي بها، وأن تشابك نسيجك المعرفي بجامعاتها، وأن تجعل معايير المنافسة سبيلك لاستدراجهم إلى سوقك الداخلي، وهم في استثمارهم يكونون جيشك الحديث الذي يجعل منك بلدا لا يمكن المسّ به. ليس لقوته العسكرية، وإنما لأنه منخرطٌ في نظام عالمي لا يحاول أن يكون فيه سيدا، وإنما أن يكون بلدا ذا مصداقية، يحترمه الكل، ويعون أنه يفهم اللعبة جيدا. وفي النهاية، هو بلدٌ يوثق به. هذا كله سيكون على مرأى من عين الشعوب وتحت تصرّفها، لا غصبا لإرادتها.


لنتذكّر ما جنته الديكتاتوريات على شعوبنا، فصدّام حسين قدّم وجه المقاومة الساذجة أمام الغطرسة الغربية، وكذلك معمّر القذافي وبشار الأسد، فما الذي جلبوه غير أن تصير هذه الدول متاعا لكل من يودّ استغلاله، فصارت البلدان التي توشّحت بطوق الممانعة ملك يد من هبّ ودب، يدخلها برجله ويعيث فيها بجيشه من دون حسيب أو رقيب.


لن تختتم المقالة هنا بدعوة الناس إلى الاعتبار والتغيير، أو التأمل، ذلك أن كاتبها يعي جيدا أن الأحداث بدأت تأخذ مسارا يُحاصرنا في أمكنةٍ ضيقة، لم يعد مسموحا فيها للتفكير القديم بالوجود، أي المرتبط بالحروب العالمية الكلاسيكية وجدار برلين.

 المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 4 + 2