كتب سليمان صالح: الدبلوماسية التركية والحرب الروسية الأوكرانية

2022.03.25 - 08:10
Facebook Share
طباعة

 الصراعات العالمية تفتح آفاقا جديدة للدول لزيادة قوتها وبناء مكانتها الدولية وتطوير سياستها الخارجية. والحرب الروسية على أوكرانيا تشكّل تهديدا خطيرا للنظام العالمي السياسي والاقتصادي، وكل دولة يجب أن تفكر في الأرباح التي يمكن أن تحققها، والخسائر والأضرار التي يمكن أن تؤثر على قوتها الصلبة والناعمة.


وعلى الرغم من أن العلماء ما زالوا يحتاجون إلى وقت لدراسة سلوك الدول، وتقييم هذا السلوك، فإننا يمكن أن نقدم بعض الحقائق التي تشكل أساسا لتطوير الدبلوماسية بكل أنواعها، وعملية صنع القرار في السياسة الخارجية.


الدبلوماسية التركية تكسب

من أهم هذه الحقائق أن تركيا امتلكت الرؤية لبناء سياسة خارجية تشكل أساسا لزيادة قوتها الصلبة والناعمة، وأن عملية صنع القرار في النظام التركي الحديث تتم طبقا لدراسات علمية، وتكون نتيجة لعملية تفكير في البدائل المختلفة تقوم بها مراكز البحث، وهذا يعني أنها لا تكون ردود فعل على الأحداث.


من أهم الأسس التي قامت عليها السياسة الخارجية التركية -خلال العقدين الماضيين- إدراك الأهمية الجيوإستراتيجية لتركيا، ومعرفة مصادر قوتها السياسية والاقتصادية والثقافية.


ومن أهم تلك المصادر الاعتزاز باستقلال تركيا، ورفض التبعية، ورغم عضويتها في حلف شمال الأطلسي "ناتو" (NATO)، فإنها تدرك حاجة هذا الحلف لوجودها فيه، وأنها تربط بين أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.


عبقرية الموقع ساهمت في بناء مكانة دولية لتركيا تجعل جميع دول العالم تتطلع لدورها السياسي والدبلوماسي خاصة في هذه الأزمة التي تهدد بإشعال حرب عالمية ثالثة. فهي الدولة التي تمتلك القدرة على تجنيب العالم ويلات تلك الحرب.


إدراك المكانة والدور

هذا يعني أنه لكي نطور علوم السياسة والعلاقات الدولية والدبلوماسية يجب أن ندرس مصادر قوة الدول، وكيفية توظيفها في بناء المكانة العالمية والدور التاريخي، وأن إدراك النظام الحاكم في الدولة لمصادر القوة هو الذي يمكنه من صنع قرارات تحقق مصالح الدولة، وتزيد قوتها ومكانتها الدولية.


يقول دويل هودجز: إن إسطنبول هي مركز العالم، ولكن منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية لم تلعب تركيا دورا في الشؤون العالمية، لكن في القرن الـ21 أصبح الجميع يدركون أن استقرار تركيا وأمنها مهم جدا للعالم كله، يضيف دويل هودجز أن: أميركا أصبحت تدرك قوة تركيا التي تسيطر على البحر الأسود، وأن حدودها تمتد مع الكثير من الدول من أهمها العراق وسوريا.


يضيف هودجز جانبا آخر لقوة تركيا هو أنها استعادت تحت قيادة أردوغان رموز الإسلام ولغته، مما أدى إلى زيادة حضورها ومكانتها.


هذا الجانب الذي يشير له هودجز يوضح أهمية الرموز والثقافة، وأن مكانة الدولة الإستراتيجية ترتبط بمكانتها الثقافية والحضارية.


الشراكة على أساس المساواة

تقول ليزل هنتز: إنه ليس من مصلحة أية دولة أن تخسر تركيا، وأصبح على أميركا أن تتعامل مع تركيا على أساس أنها شريك له كل حقوق الشراكة.. وقد أدركت روسيا أنها لابد أن تعمل على تحسين علاقاتها مع تركيا على أسس براغماتية وليست أيديولوجية، وأنها يجب أن تتجنب استخدام القوة أو التهديد باستخدامها خاصة عقب أزمة إسقاط الطائرة الروسية عام 2015. كما اتضح من أزمة منظومة الصواريخ الروسية "إس-400" (S-400) أن تركيا تتمتع بالقوة الكافية لتحقيق مصالحها وصياغة علاقاتها الدولية بإرادتها الحرة، وأنها لا تخوض صراعا من أجل أحد، وأنها لا تعادي دولة طبقا لأوامر الولايات المتحدة، وشكل ذلك صورة ذهنية لتركيا أصبحت من مصادر قوتها.


قصة نجاح الدبلوماسية التركية

يري مايكل رينولدز أن صياغة العلاقات التركية الروسية بعد عام 2015 تشكل نجاحا للدبلوماسية التركية التي تمكنت من المحافظة على المصالح القومية التركية.


ووصف رينولدز الدبلوماسية الأميركية بالفشل بسبب حمايتها فتح الله غولن الذي تتهمه تركيا بأنه قام بالمحاولة الانقلابية عام 2016، وبسبب تأييدها للجماعات الإرهابية الكردية، إذ أدى ذلك إلى تقوية العلاقات التركية الروسية.


ويصف بول تي ليفن حسابات أردوغان بأنها رشيدة، فهو يعمل على تحقيق المصالح القومية التركية، إذ تمكن من تقليل التوتر مع الولايات المتحدة الأميركية في الوقت الذي حافظ فيه على علاقة تركيا بروسيا.


لقد حافظت الدبلوماسية التركية على فرص التعاون مع روسيا لتحقيق المصالح التركية في الوقت الذي تتوفر فيه عوامل الصراع بين الدولتين خاصة في سوريا وليبيا.


كما أدركت روسيا أهمية المحافظة على علاقات التعاون مع تركيا، وحرصت على أن لا تخسر تركيا، وأن تتجنب أسباب الصدام العسكري معها، وهذا يشكل اعترافا بأهمية تركيا ومكانتها وخطورة العداء معها.


كما يوضح أهمية استثمار تركيا مصادر قوتها لمنع الصدام، وتجنب الحرب، وفرض احترام مصالح الدولة على كل الأطراف، وهذا يمكن أن يفسر تخلي روسيا عن أرمينيا خوفا من الصدام مع تركيا، ودفع أرمينيا للانسحاب من ناغورني قره باغ.


عدم الانحياز ولكن بأساليب جديدة

من أهم ملامح سلوك الدبلوماسية التركية أنها حافظت على عدم الانحياز للغرب أو لروسيا. فعلى الرغم من حرصها على عضويتها في حلف الناتو، فإنها قدمت نفسها وسيطا نزيها بين روسيا وأوكرانيا، ونجحت في عقد اجتماع بين وزيري خارجية الدولتين للتفاوض برعاية وزير الخارجية التركي.


ولأن الغرب يخشى خطورة امتداد الصراع إلى أوروبا، فإنه أصبح ينظر بتقدير وامتنان للدور التركي، ويتمنى نجاح هذا الدور في وقف الحرب، وقد استفادت تركيا من هذا الموقف في زيادة مكانتها وحضورها على المستوى الدولي، وبناء صورة إيجابية لنفسها تساهم في زيادة قوتها الناعمة، فهي الدولة التي تعمل لحماية العالم من خطر الحرب العالمية الثالثة، والتي تتمتع بإمكانات تجعلها وسيطا نزيها وغير منحاز يمكن أن يساهم في التوصل إلى حل للصراع، وبالتأكيد فإن أوروبا تتمنى النجاح للدور التركي، فهي لا تستطيع الاستغناء عن الغاز الروسي، وسوف تؤثر مقاطعتها لروسيا على اقتصادها الذي يوشك أن ينهار بفعل الكثير من العوامل والأسباب.


كما أن أوروبا أصبحت تدرك خطورة اعتمادها على أميركا وتبعيتها لها، وأن أميركا لم تعد قادرة على الدخول في حروب جديدة.


العلاقة مع أوكرانيا

هناك علاقات قوية تربط بين تركيا وأوكرانيا، وهذه العلاقات دفعت وزير الخارجية الأوكراني لأن يطلب أن تضمن أنقرة أي اتفاق يتم في المستقبل مع روسيا، فماذا يعني ذلك؟!


وقد قدمت أوكرانيا مشروع اتفاق أمني شامل، وأشار وزير الخارجية الأوكراني إلى أن الجانب الروسي يمكن أن يقبل ذلك الاتفاق بناء على اجتماعه مع وزير الخارجية الروسي.. فلماذا يطلب وزير الخارجية الأوكراني وجود تركيا إلى جانب الدول الخمس في مجلس الأمن؟!


وفي الوقت نفسه واصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جهوده لوقف الحرب بدعوة الرئيسين الروسي والأوكراني للاجتماع في تركيا لإجراء محادثات للتوصل إلى حل.


وطبقا للبيان الذي أصدره مكتب الرئيس التركي: أكد أردوغان أنه لكي يتم التوصل إلى اتفاق في قضايا معينة، فإن هناك حاجة لاجتماع الرئيسين الروسي والأوكراني.


كما أوضح الرئيس التركي ضرورة فتح ممرات إنسانية للسماح للمدنيين بالخروج من المدن التي تدور فيها الحرب. لذلك وجه وزير الخارجية الأميركي الشكر لتركيا على دورها في مساعدة أوكرانيا، والتزامها بسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها.


وكانت تركيا قد استضافت اجتماعا بين وزيري الخارجية الروسي والأوكراني في أنطاليا. ومن دراسة الأحداث يتضح أن تركيا قد نجحت حتى الآن في التمهيد للحل السلمي للحرب، لكن ذلك يحتاج إلى المزيد من الجهود، وإذا تمكنت تركيا من التوصل إلى هذا الحل، فإنها تكون قد قدمت خدمة عظيمة للبشرية، وأنقذت النظام الاقتصادي العالمي من الانهيار، وبذلك ستكون تركيا هي الفائز في هذه الحرب، وتمكنت من زيادة حضورها على المستوى الدولي.


وحتى الآن لا يمكننا أن نؤكد أن الحرب بين أوكرانيا وروسيا يمكن أن تنتهي بالتوصل إلى حل سلمي.. لكننا يمكن أن نتوصل إلى نتيجة مهمة هي أن تركيا قد أصبحت أكثر قوة، وأن دول أوروبا أصبحت تتطلع إلى الدور التركي لإنقاذها، وأن هناك قدرا من الإعجاب بقدرة تركيا على المحافظة على استقلالها، وبناء سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية.


وهذا يشكل أيضا إمكانية لتطوير علوم الدبلوماسية والعلاقات الدولية في القرن الـ21 الذي يشهد تحديات ومخاطر وتهديدات تختلف عن تلك التي واجهها العالم في القرن الماضي، ومن أهم الأسس التي يقوم عليها هذا التطوير توظيف مصادر قوة الدولة المختلفة في بناء مكانتها الدولية.

 المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 2