كتب أسامة أبو ارشيد: في المفاضلة بين مُعْتَديين

2022.03.11 - 10:13
Facebook Share
طباعة

واحدة من المقولات التأسيسية عند فئةٍ من المثقفين العرب حيال الموقف من الأزمة الأوكرانية مفادها: "أين تقف أميركا يجب أن نقف ضدها". لا يقتصر اللجوء إلى مثل هذا المنطق على قوميين ويساريين، بل إن بعض الإسلاميين يفعلون الأمر ذاته. وعلى الرغم من أن ثمَّة شواهد كثيرة يمكن أن تساق لتعضيد هذه المقولة أو تبريرها، إلا أن هذا لا ينفي أنها تعاني من تسطيح وتبسيط واختزال. صحيحٌ أن العدوانية في السياسة الخارجية الأميركية بدأت باكراً، منذ مطلع القرن التاسع عشر، كما رأيناها في التدخل في دول في أميركا اللاتينية، كتشيلي عام 1811، مروراً بالحروب الأميركية – المكسيكية، 1846 – 1848، التي انتهت باحتلال الولايات المتحدة مناطق كانت تابعة للمكسيك، ككاليفورنيا وتكساس، إلا أن هذا لا يعني أن سياسة غيرها من الدول الكبرى أقل سوءاً. ومن ثمَّ، من غير المنطقي ولا المفيد أن نصوغ مواقفنا وتحيّزاتنا على مثل هذه المقولات القاصرة أو نختزلها فيها.

مقاربة الأزمة الأوكرانية على أنها فخٌّ نصبه الغرب لروسيا لاستنزافها وإنهاكها لا يجعل من الأخيرة بريئةً وحليفاً طبيعياً لنا

يصوغ بعض المثقفين العرب مواقفهم في السياق الأوكراني تأسيساً على معارضة أميركا مبدئياً، والتمايز والتباين معها من منطلق مركزية القضية الفلسطينية والصراع مع المشروع الصهيوني. لا أريد هنا أن أخوض كثيراً في موضوعة مركزية القضية الفلسطينية عربياً، ولكنها قطعاً لا تحتمل مفهوم إلغاء بقية قضايا الأمة وجراحاتها وآمالها وطموحاتها، أو التهوين من شأنها. وكل من يحاول فرض مثل هذا الفهم السقيم، فإنما يساهم في إضعاف (وهدم) المكانة الخاصة لفلسطين ومركزية الصراع مع المشروع الصهيوني في الوعي الجَمعِيِّ العربي. ومسألة المفاضلة بين عدوان وعدوان، وبين دماء ودماء، وبين حق وحق، عدا عن أنها غير أخلاقية، فإنها أيضاً تقودنا إلى صياغة معادلات خاطئة، وبالتالي التسبّب في نتائج كارثية.


لا يعني ما سبق أبداً أن الولايات المتحدة لم ولا تمارس العدوان على كثير من شعوب العالم، والعرب منهم. لقد خبرنا ذلك في دعمها الاحتلال الصهيوني، وفي جرائمها في العراق، وحصارها ليبيا، ودعمها أنظمة ديكتاتورية فاسدة، وحضّها وتمكينها انقلابات على أي محاولات للانعتاق والتحرّر. ولا يجانب الحقيقة منطق القائلين بنفاق واشنطن وهي تُشَنِّعُ على روسيا بسبب عدوانها في أوكرانيا، في حين أنها فعلت ذلك مراراً وتكراراً، في أميركا اللاتينية، وفي فيتنام، وشبه الجزيرة الكورية، والعراق... إلخ. لكن هذا لا يُحَصّنُ روسيا من جرائم الحرب التي ارتكبتها عبر تاريخ طويل من العدوان، ولا زالت، سواء في شمال أوروبا ووسطها وشرقها، أم في القوقاز ووسط آسيا وفي القرم، والتطهير العرقي الذي مارسته في ظل الاتحاد السوفييتي بحق مئات آلاف من الألمان والفنلنديين واليونانيين والتتار. المفارقة هنا أن من يطالبوننا اليوم أن نقف مع موسكو ضد واشنطن في أوكرانيا يتوقعون منَّا أن نغضّ الطرف عمَّا تفعله روسيا في سورية، بذريعة أن ما يجري "مؤامرة" ضد نظام "ممانعة" خدمة لإسرائيل، وكأن الشعب السوري مُتَصَهْيِنُ الهوى!

لا فرق بين عدوان في فلسطين والعراق واليمن، عن آخر في الشيشان وأوكرانيا وسورية

إذاً، المفاضلة هنا مرفوضة منطقياً ومصلحياً وأخلاقياً، ومقاربة الأزمة الأوكرانية على أنها فخٌّ نصبه الغرب لروسيا لاستنزافها وإنهاكها لا يجعل من الأخيرة بريئةً وحليفاً طبيعياً لنا. هذا صراع نفوذ بين قوى كبرى، والحق والعدل والقانون فيه مجرّد شعارات خاوية يردّدها المتصارعون، وهي كذلك أوراق تينٍ يحاولون ستر عوراتهم بها. ومع ذلك، لا ينقضُ هذا منطق بعض من يرى أن في تنافس قوى كبرى فرصة لشعوب مغلوبة على أمرها لمحاولة تعزيز وضعها الاستراتيجي، عبر ممارسة ابتزاز مُبَرَرٍ ومُسَوَّغٍ. لكن، عندما تكون هذه الشعوب، وقطعاً نحن العرب في مقدمتها، عاجزة عن اللعب على التناقضات، إذ لا دول عندنا تملك الرؤية والإرادة والإمكانات لفعل ذلك، فإن هذا لا يعطي الحقّ لبعض بيننا أن يحاولوا تبييض صفحات العدوانية الروسية، بذريعة أن أميركا أكثر عدوانية. الحقيقة هي أن كلا منهما عدواني، وكلاهما لا يقيم وزناً لحقوق الإنسان وأي اعتبارات قانونية وأخلاقية. وهنا لا فرق بين عدوان في فلسطين والعراق واليمن، عن آخر في الشيشان وأوكرانيا وسورية. ينطبق الأمر ذاته على ما تفعله الصين بحق مسلمي الإيغور في إقليم شينجيانغ وتعدّياتها على المياه الإقليمية لعدد من دول بحر الصين الجنوبي، وهو ما ينسحب كذلك على الهند وما تفعله بمواطنيها من المسلمين وفي كشمير .. إلخ.

باختصار، أينما كان الظلم نحن ضده. وبدل المفاضلة بين معتدٍ وآخر، الأَوْلى أن نسعى إلى بناء منظومة عربية قادرة على ردع المعتدين، أو على الأقل المناورة بينهم على أمل توظيف التناقضات لخدمة قضايانا ومصالحنا الجَمعِيَّةِ. 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 7 + 2