كتب وليد الهودلي: احتلال خمس نجوم وجريمة نابلس!

2022.02.18 - 08:28
Facebook Share
طباعة

 هل أصبحت إقامة الاحتلال في الضفة الغربية كمن يقيم في فندق خمس نجوم؟ أعني بذلك أنه في حالة من المتعة والرفاهية والأمن والأمان والاستثمار السياسي والاقتصادي والأمني إلى درجة غير مسبوقة، وأن من يعكّر عليه هذه الأجواء الوردية التي لم يحلم بها في يوم من الأيام سيحظى بما حظي به شباب نابلس الذين تمت تصفيتهم بهذه الطريقة الوحشية المريعة.


أصبحت الضفة الغربية الحديقة الخلفية للاحتلال ومصدر الأيدي العاملة الرخيصة، حتى أنه يوظف العقول الفلسطينية المتفوّقة في البرمجة الالكترونية عبر شركات وسيطة تذلّل له هذه الرقاب المبدعة وتستثمر فيها أبشع استثمار. الطرق له والمعابر بيديه، والاستيراد والتصدير، والمياه والأرض والسماء، والقدس والمقدّسات، وسجلّ السكان، وسياسة الاستيطان والاعتقال والاغتيال.. الخ.


آمل أن أتحدّث بصراحة ووضوح، وأن أعبّر دون أن تجنح بي العاطفة أو يحدّدني العقل بحساباته السياسية القاسية. سأحاول الموازنة ما استطعت لذلك سبيلا، وسأحاول تشخيص مستجدات الضفة الغربية التي وفّرت ظرفا ملائما لتنفيذ هذه الجريمة النكراء التي قام بها جيش الاحتلال نهارا جهارا وسط مدينة نابلس جبل النار.


ما الذي جرى حتى يدخل الاحتلال فينا بكلّ هذه السلاسة كنطّاس بارع في غرفة عمليات يقوم بعملية جراحية معقّدة بمهارة فائقة، فيشقّ القلب ويفعل به ما يريد ثم ينسحب بسلام وهدوء واطمئنان؟


هكذا كان زعيمهم شارون في نهايات السبعينات من القرن الماضي يتحدّث عن اجتياح لبنان ويصفه بأنه نزهة صيفية، وإذا بهم يفرّون عام 2000 من لبنان في عملية سمّوها الغسق، وهو الوقت شديد الظلمة، وهو الوقت الأكثر مناسبة لحرامية الليل، خرجوا مهزومين مدحورين فارّين بجلدهم وتركوا خلفهم عملاءهم دون أن يكترثوا بهم، وتركوا كثيرا من العتاد والسلاح، وأصبح الأسرى اللبنانيون في سجن الخيام أحرارا بعد أن كانوا في المساء سجناء.


وهكذا كان زعيمهم شمعون بيرس يتحدّث عن غزّة ككابوس يؤرّق منامهم، ويتحدث عن خالص أمنياته بأن يصبح وقد ابتلع البحر غزّة، تحوّلت غزة إلى نار وجحيم على المحتل، وأصبحت كلفة وجوده فيها عالية الثمن بشريا وماديّا، ووصلت به حساباته إلى أن الخروج من غزّة يخفّف من عبء هذه التكلفة الباهظة فانسحب مدحورا منها، ولم ينته وجع دماغه من غزّة فقد أضحت شوكة دائمة الألم في قلبه.


وكانت الضفة أيضا تسير بذات الاتجاه، الاتجاه الذي يجعل من بقاء الاحتلال فيها باهظ الثمن، إلى أن جاءنا اتفاق أوسلو وتعلّقت الآمال به لأن نصل إلى الأهداف بثمن أقلّ من الدماء والمعاناة وكفى الله المؤمنين القتال. سلكنا طريقا آخر غير الطريق الذي لا يفهم الاحتلال غيره، على أمل أن يتفهّم الحق الفلسطيني بأقلّ الخسائر الممكنة، ومن خلال الضغط الدولي والعمل السياسي والدبلوماسي وحشره في زاوية القرارات الدولية وحالة التعاطف العالمية والإنسانية للمظلومية الفلسطينية.


وفي سبيل ذلك قدّم الفلسطينيون كلّ ما هو ممكن، وتنازلوا كثيرا وتم حرف البوصلة، واشتغلت أطراف كثيرة على ثقافة الشعب الفلسطيني كي يصبح أكثر أناقة ودماثة ولينا وتسامحا. تم تقليم أظافره وتفعيل قصة النمور في اليوم العاشر لزكريا تامر، والتي حوّلت النمر (للأسف الشديد) من آكل لحم إلى آكل للأعشاب. والقصة برمزيتها تتحدّث عن عملية الترويض، وأعتقد أنه لا يختلف اثنان على أننا قد جرت علينا عملية ترويض، قد نختلف على حجم الترويض وفظاعة نتائجه، ولكننا لن نختلف على أصل الترويض وأنه قد حصل، وأن الدوران حول القضية الفلسطينية قد نال منه الدوران حول الأشياء والرواتب والأوضاع المعيشية. لم يعد الاهتمام بالوطن والاشتباك الدائم مع المحتلّ هو الزاد اليومي للإنسان الفلسطيني، فقد أصبح الفلسطيني الجديد باختصار مختلفا اختلافا كبيرا عن الفلسطيني القديم والأصيل.


جريمة نابلس والطريقة التي نُفِّذت الجريمة بها والنتائج المؤلمة التي أراد المحتل غرسها في عمق الوجدان الفلسطيني؛ يجب أن تكون بمنزلة صدمة صخرة الغار للجبين الفلسطيني، نزلت الدماء الزكية غزيرة وصبغت وجوهنا. علينا أن نفتح أعيننا جيدا لنرى المشهد على حقيقته، الاحتلال يسخر منا، يستهبلنا، يستحمرنا، فهل نستيقظ قبل فوات الأوان، أم نستمر انتظارا للجريمة القادمة؟


هذه الجريمة كشفت حجم المأساة وحجم ما بتنا نتردّى فيه من هزيمة نكراء طالت كل مكونات الحياة الفلسطينية، وهذا الانسحاب من حالة الثورة إلى حالة الملهاة التي تدور رحاها في حياة عبثية لا وزن فيها لقيم الحرية والاستقلال والعودة والأرض والأسرى والمسرى والحقوق المسلوبة كافّة. باختصار، كشفت الخلل في فقدان البوصلة وضياع الذات الثورية والقضية وتحقيق راحة بال الاحتلال، بل وتوفير ما سمّيته احتلال خمس نجوم.


قد يقول قائل: ما هذه النظرة السلبية المتشائمة وكأنك تشطب تاريخنا الثائر، وكأنك تنكر أيضا أن شعبنا دوما يحتفظ بناره تحت الرماد وأنه طالما أذهل العالم بمفاجآته؟ لذلك فأنا لا أتحدّث عن الماضي التليد ولا عن المستقبل المفاجئ، وإنما أتحدّث عن هذه المرحلة التي أضحت دماؤنا مستباحة لهذا العدوّ المجرم بهذا الشكل المهين. وكي أقرأ الحدث الراهن بكل معطياته الموضوعية، لا بدّ من قرع جرس الإنذار ولا بدّ من هذا التوصيف، وأن نبتعد عن سحر الكلمة الذي يعمي عن رؤية الواقع.


وطالما أن الاحتلال لا يدفع ثمن احتلاله وإنما نحن المستمرون في دفع ثمن تراجعنا لن نتقدّم خطوة للأمام، ولن نسير نحو التحرير طالما أننا الحلقة الأضعف وحضرة جناب الاحتلال لا يدفع ثمن احتلاله. إن لم يكن الألم على الأقل متبادلا وبقيت المعادلة مائلة كلّ الميل لصالحه، فلن نتقدم قيد أنملة.


مرة أخرى أتحدّث عن هذه المرحلة ولا أرمي بتوقعاتي بعيدا عن معطيات هذا الواقع، فإن تغيّرت حتما ستتغيّر التوقعات.

 المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 3