كتبت ميسون شحادة: روسيا وأوكرانيا.. رواسب تاريخية للحرب

2022.02.17 - 09:13
Facebook Share
طباعة

 يتعلق الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا بالسيطرة على الأراضي والممتلكات والسكان. فالسهول الخصبة في أوكرانيا حولتها لواحدة من أكبر الدول المنتجة للقمح في العالم (منتوج روسيا وأوكرانيا من القمح يشكل 30 في المئة من منتوج القمح في العالم). وتقع أوكرانيا على البحر الأسود الذي يشكل الطريق البحري الرئيسي الذي يربط أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى والقوقاز بالبحر الأبيض المتوسط.


وتطل على البحر الأسود ثلاث دول أعضاء في حلف الأطلسي، وهي رومانيا وبلغاريا وتركيا، إضافة إلى أوكرانيا وجورجيا اللتين تجريان مفاوضات للانضمام إلى الناتو.


تسعى روسيا إلى الهيمنة على البحر الأسود وترغب بمنع أوكرانيا (وجورجيا أيضًا) من الانضمام لحلف الناتو، الذي يشكل نظاما للدفاع الجماعي، تتفق فيه الدول الأعضاء على الدفاع المتبادل ردًا على أي هجوم من قبل أطراف خارجية. الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والمملكة المتحدة دول أعضاء بشكل دائم في مجلس الأمن الدولي، وفي حلف الناتو وتتمتع بحق النقض (فيتو) في مجلس الأمن الدولي، وهي دول نووية لا ترغب روسيا بإعطاء شرعية لها بمحاربتها للدفاع عن أوكرانيا في حال ضم أوكرانيا لحلف الناتو.


منذ نهاية الحرب الباردة مطلع التسعينيات، توسع الناتو من منظمة عسكرية مكونة من 16 دولة إلى منظمة مكونة من 30 دولة شريكة تمتد حتى حدود روسيا وتضم معظم دول حلف وارسو السابق - التحالف العسكري الشرقي الذي قادته روسيا ضد الناتو خلال الحرب الباردة. إن انضمام أوكرانيا لهذا الحلف سيسبب تهديدا جديا لروسيا لا يرغب به بوتين. روسيا طالبت واشنطن بأن يسحب الناتو قواته من الدول في شرق القارة، والتي كانت في السابق جزءًا من الكتلة الشيوعية - بما في ذلك بولندا ورومانيا ودول البلطيق مثل ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا - وأن يتعهد الناتو بعدم ضم أي دولة أخرى في شرقي أوروبا للحلف، بما في ذلك أوكرانيا وجورجيا.


مهدت ثلاثة أحداث سابقة للتوتر الحالي؛ الأول، الإبادة عن طريق التجويع المقصود للشعب الأوكراني الذي نُسب لستالين بين عامي 1932-1933؛ والثاني، ضم روسيا مجددًا لشبه جزيرة القرم في عام 2014؛ والثالث، نجاح الكنيسة الأوكرانية بالانفصال عن الكنيسة الروسية وتأسيس كنيسة مستقلة عام 2019.


لأوكرانيا وروسيا تاريخ مشترك. غالبًا ما يشار إلى روس - كييف، العاصمة الحديثة لأوكرانيا، أنها أم المدن الروسية أو مهد الحضارة الروسية وذلك بفضل قوة روس - كييف، إذ إنها أول دولة سلافية في أوروبا، والتي نشأت منها روسيا وأوكرانيا. روّج الاتحاد السوفييتي في أيامه الأولى لثقافات محلية في الجمهوريات السوفيتية، إلا أن هذا الترويج توقف في أواخر عشرينيات القرن الماضي، إذ نادى ستالين بقومية روسية واحدة عليا في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي. تبعات هذه السياسة هي إنكار وجود الثقافة الأوكرانية، والتي وصفت على أنها شكل محلي للثقافة الروسية في الاتحاد السوفييتي.


بين عامي 1932 و1933 شهدت أوكرانيا "هولودومور" - القتل من خلال الجوع أو التجويع حتى الموت. في الفترة ذاتها كانت المجاعات تعصف بمناطق أخرى من الاتحاد السوفييتي، ولكن الخسارة الأكبر في الضحايا كانت من نصيب أوكرانيا. تعتبر "هولودومور" أحد أسوأ الكوارث في التاريخ الأوكراني، وأحد أسوأ معالم فترة حكم ستالين، إذ تشير التقديرات إلى أن قرابة 4 مليون أوكراني قُتلوا في هذه المجاعة، رغم أن أرقامًا غير رسمية تشير إلى أعداد تصل إلى 10 مليون ضحية.


في عام 2006، اعترفت أوكرانيا المستقلة وعدد من البلدان الأخرى بمجاعة "هولودومور أكورانيا" على أنها إبادة جماعية للشعب الأوكراني. الأوكرانيون وجهوا أصبع الاتهام إلى ستالين، واتهموه بأنه لم يمنع المجاعة بهدف القضاء على الهوية الوطنية الأوكرانية وعلى الشعب الأوكراني، كقوة سياسية وككيان اجتماعي.


على خلفية هذا التاريخ الدامي، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار المشكلة الرئيسية في أوكرانيا، وهي ارتفاع نسبة السكان من أصل روسي الذين يريدون الانضمام إلى روسيا. يتركز ويتصاعد هذا الصراع في شبه جزيرة القرم (قاعدة الأسطول الروسي في البحر الأسود)، حيث يتواجد عدد كبير من السكان الروس.


كانت شبه جزيرة القرم جزءًا من الإمبراطورية الروسية، ثم بعد ذلك جزء من الاتحاد السوفييتي؛ فقد ضمتها روسيا رسميًا إليها في العام 1783. في العام 1920 أعلنت حكومة الاتحاد السوفييتي عن جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي. وفي العام 1954 أعاد الرئيس السوفييتي خروتشوف ضم القرم لأوكرانيا. في عام 2014، أعلن سكان شبه جزيرة القرم عدم اعترافهم بالسلطة في كييف ورغبتهم بالانفصال عنها، والانضمام إلى روسيا. في حدث انقلابي مخطط له، أكدوا رغبتهم بالانفصال بواسطة رفع العلم الروسي فوق مجلس النواب وخفض العلم الأوكراني. في شباط/ فبراير 2014، غزت القوات المسلحة الروسية الخاصة والانفصاليون الموالون لروسيا مباني الحكومة المركزية والقواعد العسكرية ومرافق الاتصالات التابعة للدولة الأوكرانية، ما أجبر السلطات المحلية على إجراء استفتاء غير رسمي، أظهر رغبة السكان بالانضمام إلى روسيا. تبع هذا وبشكل سريع (18 آذار/ مارس 2014) الإعلان الرسمي للكرملين بضم شبه جزيرة القرم لتصبح تحت سيطرة موسكو.


ردود الفعل لم تتأخر كثيرا، ففي كانون الثاني/ يناير 2019، احتفل الأوكرانيون بعيد الميلاد ورأس السنة بشكل مغاير. فقد نجحت الكنيسة الأوكرانية في الحصول على موافقة بطريرك إسطنبول - القسطنطينية بالانفصال عن كنيسة برفوسلاف الروسية. قبل هذا الحدث كانت الكنيسة في أوكرانيا، مثل الكنائس الأخرى في البلدان التي كانت تابعة سابقًا للاتحاد السوفييتي، تابعة للبطرك ومقره موسكو. هذه التبعية لا تعني فقط التبعية في الطقوس الدينية، وإنما تبنى عليها الكثير من التبعيات السياسية. الترجمة الفعلية لانفصال كنيسة كييف عن الكنيسة الروسية هو أن آلاف المؤمنين الأوكرانيين توقفوا عن الخضوع للسلطة الدينية العليا في موسكو ولروسيا. وبما أن الكنيسة الروسية تعتبر ذراعا للدولة والمؤثر الأول في صياغة الهوية الوطنية، فإن انفصال الأوكرونيين عن الكنيسة الروسية وتأسيس كنيسة مستقلة يعني الاستقلال عن روسيا وعدم الاضطرار أكثر لموالاة حكمها. كما وقعت أوكرانيا في عام 2017 اتفاقية شراكة اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، والتي تشمل فتح الأسواق للتجارة الحرة والسماح للمواطنين الأوكرانيين بالسفر إلى دول الاتحاد الأوروبي بلا تأشيرات.


في المقابل، يبقى الغاز السلاح الأقوى بيد روسيا ما دامت الولايات المتحدة ودول أوروبا لم تجد له بديلا، إذ إن 80 في المئة من الغاز الروسي الذي يصل إلى غربي أوروبا يمر عبر أوكرانيا. إلى جانب ذلك، تتحكم روسيا بتزويد 40 في المئة من الغاز الطبيعي لدول الاتحاد الأوروبي. وفي حالة أعلن الاتحاد عن تضييقات وعقوبات ضد روسيا، ستكون ألمانيا المتضررة الأكبر من الأزمة لاعتمادها المكثف على الغاز الروسي بعد أن بدأت خطتها الإصلاحية بالتقليص التدريجي من الاعتماد على المفاعل النووي لإنتاج الطاقة وتقليل الاعتماد على طاقة الفحم.


إزاء ذلك، تدرك روسيا أن يدها هي العليا في هذا المجال، ولكن بشكل مؤقت، لذلك تسعى لاستغلال هذه الفرصة الذهبية وميزان القوى الحالي لإحكام سيطرتها على المنطقة جغرافيًا، واقتصاديًا، وعسكريًا.

 

 

 المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 9 + 9