كتب سمير حمدي: القضاء في تونس بين الإصلاح والإخضاع

2022.02.15 - 07:53
Facebook Share
طباعة

 بعد قرار رئيس الجمهورية في تونس، قيس سعيّد، حل المجلس الأعلى للقضاء، ووضع مقرّه تحت الحراسة الأمنية، ومنع أعضاء المجلس وموظفيه من مباشرة أعمالهم بالشكل المعتاد، يكون القضاء التونسي بصدد خوض معركة جديدة من أجل حماية كيانه والحفاظ على استقلاليته.


تاريخيا، ظلّ القضاء التونسي يعاني من ضغط السلطة التنفيذية وتدخلها المباشر في أعماله، تحت مبرّرات شتى، وهو ما دفعه إلى خوض معارك للدفاع عن نفسه، غير أن النظام الاستبدادي الذي كان قائما، وفي ظل الدستور الذي يمنح صلاحياتٍ مطلقة للسلطة التنفيذية، ممثلة في رئيس الجمهورية، كان يتمكّن، في كل مرة، من إسكات صوت القضاة الخافت، وإجبارهم على البقاء ضمن دائرة الولاء المطلق، سواء عبر التهديد أو عبر شراء الضمائر. وفي كل الأحوال، كانت سلطة الاستبداد بحاجة إلى الهيمنة على القضاء لاستخدامه أداة لمحاكمة معارضيها، وفرض هيمنتها على المجتمع، عبر قضاء خاضع للأوامر السلطوية.


بعد ثورة 14 جانفي (2011)، وما رافقها في تونس من انتقال ديمقراطي وصياغة دستور جديد يضمن الفصل بين السلطات، كان من الطبيعي إعادة الاعتبار للسلطة القضائية، بوصفها الركيزة الثالثة والضرورية لبناء دولةٍ تحترم الحقوق والحريات، فالفكرة الأساسية لأي دولةٍ تحترم الحد الأدنى من شروط الديمقراطية عدم تركيز السلطة في يد فرد واحد أو هيئة واحدة، وتوزيعها بين المؤسسات التي تتولى الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية، بحيث تراقب كل مؤسسةٍ المؤسسات الأخرى، وتتأكد من أنها تؤدّي دورها في الإطار الذي حدّده لها الدستور والقانون. ولهذا، خصص دستور 2014 بابا للسلطة القضائية يتضمن تفاصيل هيكلتها ومجال اختصاصها، وأكد الفصل 114 من الدستور أن المجلس الأعلى للقضاء هو الذي "يضمن حُسن سير القضاء واحترام استقلاله". غير أن ما حصل ما بعد 25 يوليو/ تموز 2021 كان يسير في اتجاه تعطيل كل ما ورد في دستور 2014، وإعادة هيكلة البنية الدستورية للدولة باتجاه حكم الفرد الذي يتمتع بصلاحياتٍ مطلقةٍ خارج أي رقابة مهما كانت، وأساسا السلطتين التشريعية والقضائية.


كان متوقعا تعطيل المجلس الأعلى للقضاء بوصفه هيئة مستقلة تعبر عن المعنى الدستوري للفصل بين السلطات. ولهذا بادر رئيس الجمهورية منذ إصداره المرسوم 117 لسنة 2021 الى التصرّف خارج ما يفترضه الدستور، وكان مبرّره تصحيح المسار، وظلت مقولة مكافحة الفساد تتردّد ضمن إطار ضرورة إصلاح الجهاز القضائي. وإذا كان من الأكيد وجود مواطن للفساد وسوء التصرّف في مواقع مختلفة من أجهزة الدولة، بما فيها القضاء، فإن الأكيد أن حل الهياكل القضائية لا يعتبر حلا لمشكل الفساد، وإنما يندرج أساسا ضمن محاولة إخضاع السلطة القضائية وإعادتها الى مربع الولاء للسلطة التنفيذية ليس إلا، وهو ما أوجد رد فعل واسعا، تجلى في رفض السلطة القضائية، بهياكلها المختلفة، هذا المسار الذي يضرب، في الصميم، أهم أساس للدولة العادلة، ونعني به الفصل بين السلطات وما يرتبط به من مبدأ أن "المسؤولية تعادل السلطة"، والذي يعني أنه، بقدر ما يمارس شاغل الوظيفة العامة من اختصاصات، تكون مسؤوليته ومحاسبته، وبقدر ما يتمتع به من السلطة تكون الرقابة على ممارساته، هذه الرقابة التي تضمحل في ظل هيمنة السلطة التنفيذية على باقي السلطات وتجميدها لها أو حذفها تماما في بعض الأحيان.


كان واضحا في ظل المواقف التي أبداها المجلس الأعلى للقضاء المنتخب من القضاة رفضه الإجراءات الرئاسية بحقه، وكان تحرّك جمعية القضاة الداعي إلى خوض محطّات نضالية، من ضمنها الإضراب عن العمل في المحاكم، وصولا إلى تنظيم تحرك احتجاجي أمام قصر العدالة بتونس، والاستعداد لخوض المعركة، أن السلطة القضائية في تونس أصبحت تتصدّر المشهد، ليس من باب الدفاع عن وجودها واستقلاليتها فحسب، بل والدفاع عن الدستور والديمقراطية ذاتها.


ما يجري في المرحلة الحالية في تونس يتجاوز قضايا النزاع القطاعي المعتاد بين سلطات الدولة المختلفة وأجهزتها المتنوعة، ليصبح دفاعا عن الدولة للحفاظ عليها بوصفها كيانا يحمي الحقوق والحريات، ويضمن الديمقراطية وحق التداول على السلطة ضد كل نزعات الفردية والسلطة المطلقة، وهو ما يتجاوز الجسم القضائي ليشمل كل المجتمع المدني والشارع السياسي، فالقضاء المستقل العادل هو الشرط الضروري لتحقيق دولة المواطنة، وأنه من الأهمية بمكان عدم السماح لأي سلطة بممارسة الهيمنة بشكل منفرد، ومن دون تدخل من السلطات الأخرى، ذلك أن السلطة تحد السلطة. وفي غياب هذا المبدأ، تنجرّ البلاد إلى حكم مطلق بصلاحيات شبه إلهية، لا يمكن أن يقود إلى الإصلاح، وإنما سيتأسس على منطق الإخضاع.

 المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 9 + 7