كتب سالم البيض:عن الخيار الثالث والحاجة إلى الإنقاذ الوطني في تونس

2021.12.10 - 02:22
Facebook Share
طباعة

الخيار الثالث في تونس هو اتجاه ورؤية أعلن عنها الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي عشية إحياء الذكرى 69 لارتقاء الزعيم الوطني، فرحات حشّاد، شهيداً، على أيدي عصابات المعمّرين المسلحة وبوليس الدولة الاستعمارية الفرنسية يوم 5 ديسمبر/ كانون الأول 1952. تنظيم المنظمة النقابية الكبرى في تونس اجتماعاً جماهيرياً في ساحة القصبة يوم 4 ديسمبر الحالي، واستعمال رمزية حشّاد مؤسس تلك المنظمة، واستحضار دوره التاريخي، وذكرى اغتياله، في الإعلان عن اللقاء الوطني الذي سينسج خيوط الخيار الثالث، وحياكة ملامح المرحلة المقبلة من تاريخ تونس، وتحديد قواها الفاعلة، ورسم خريطة سياسية واضحة المعالم للخروج من الأزمة المتعدّدة الأبعاد التي عطّلت الاشتغال الطبيعي للدولة التونسية، يجيب عن سؤال المشروعية الذي يطرحه بعضهم من حين إلى آخر عن لعب الاتحاد دوراً سياسياً بارزاً ومحورياً، بالإضافة إلى مهامّه النقابية الصرفة، فحشّاد لم يكن زعيماً نقابياً تقتصر وظيفته على المطلبية النقابية والدفاع عن حقوق العمال المهنية، وإنما كان، بالإضافة إلى ذلك، زعيماً وطنياً قاد الحركة الوطنية في أكثر من مناسبةٍ عند غياب قادتها، خصوصاً الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، بالسفر إلى الخارج أو بالسجن والمنفى، ودفع ثمن ذلك حياته، وهو في أوج الشباب والعطاء. وكذلك الأمر بالنسبة للاتحاد الذي كان شريكاً في الاستقلال الوطني سنة 1956، ومعاركه التحرّرية المسلحة والسلمية، ومجلسه التأسيسي الذي أنتج دستور 1959، وحكوماته المتعاقبة، حتى أنّ أمينه العام أحمد بن صالح، الذي لُقّب بالرجل القوي الذي شغل عدة وزارات مجتمعة، وأطاحه الرئيس بورقيبة لاحقاً، اعتمد البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد برنامجاً للحكومة التونسية طوال الستينيات من القرن الماضي. وفي السياق ذاته، تولى الأمين العام أحمد التليلي، الذي علاوة على دوره النقابي ونضاله الوطني في الحزب الحر الدستوري التونسي، التنسيق بين الحكومة التونسية وقيادة الثورة الجزائرية 1956-1962، وائتُمن على جمع الأموال وتمرير الأسلحة القادمة من مصر إلى ثورة المليون ونصف مليون شهيد، ما قد يكون سبباً لموته الغامض سنة 1967.

وهذا التداخل بين السياسي الوطني والنقابي المطلبي يعتبر خصوصية تونسية بامتياز، استمرّت في مختلف ردهات التاريخ السياسي التونسي المعاصر، فالاتحاد هو الذي قاد المفاوضات الاجتماعية كل ثلاث سنوات التي كانت تؤدّي إلى الزيادة في الأجور، ردّا على ارتفاع الأسعار زمن حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وهو الذي هيّأ الأرضية لسقوط نظامه عن طريق الإضرابات العامة الجهوية التي نفّذها، ونظّم اعتصامي القصبة الأول والثاني، وأشرف على عملية الانتقال من حكم ذلك الرجل إلى سلطة الثورة التونسية سنة 2011، وإلى حدود تأمين انتخاب المجلس الوطني التأسيسي، وهو الذي قاد الحوار الوطني بعد دخول تونس نفق الدم والاغتيالات التي ذهبت بحياة الزعيمين، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وعشرات الجنود والأمنيين، وهو الذي وجد مخارج للصراع على الدستور الذي شهدته قبة المجلس الوطني التأسيسي وأروقته، والإشراف على تشكيل حكومة التكنوقراط، برئاسة مهدي جمعة، والوصول إلى تنظيم انتخابات سنة 2014 التشريعية والرئاسية، وقد مكّنه ذلك الدور من الحصول على جائزة نوبل للسلام بمعية منظماتٍ وطنيةٍ أخرى.


يرى بعضهم أن حدث 25 جويلية مثلّ مدخلا لإصلاح مجتمعي شامل وهيكلي، لتجاوز أعطاب سياسية واقتصادية ومالية وتنموية قاتلة، أنتجتها عشرية 2011-2021

وهذه الأدوار النضالية للاتحاد العام التونسي للشغل المستندة إلى وجود مادي ملموس متواصل بدون انقطاع منذ 20 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 1946، تاريخ تأسيسه، وإلى رأس مال رمزي واجتماعي فاعل وتاريخي، يعود إلى ظهور جامعة عموم العملة التونسيين، بقيادة محمد علي الحامي، سنة 1924، كافية لأن تمنحه شرعية تقييم الآخرين، ومدى نجاح تجاربهم في الحفاظ على الدولة وحمايتها من التفكّك والانهيار، وهم الذين تسلموها متماسكةً قادرةً على إدارة شؤون المجتمع بالحدّ الأدنى الموكول إليها.

ويبدو أنّ فكرة الخيار الثالث التي تلتقي في الدفاع عنها منظماتٌ جماهيريةٌ وازنةٌ وأحزابٌ سياسية متعدّدة الأيديولوجيات والانتماءات، وقوى مدنية وأخرى جندرية، وشخصيات وطنية تمثل أكبر طيفٍ من مجموعات الضغط، أجمعت جميعها على أن حدث 25 جويلية (يوليو/ تموز) مثلّ مدخلا لإصلاح مجتمعي شامل وهيكلي، لتجاوز أعطاب سياسية واقتصادية ومالية وتنموية قاتلة، أنتجتها عشرية 2011-2021. لكن مقاربة الرئيس قيس سعيّد وتمثلاته السياسية التي تتسم بالعتاقة وضعف الخبرة السياسية وإهمال البعد الاقتصادي في حكمه، والاقتصار على رفع الشعارات الرنانة وعداء آخرين لا يعرفهم إلا الرئيس نفسه ونعتهم بأبشع النعوت، من دون القيام بإصلاحات حقيقية وواقعية، والاعتقاد أن موطن الداء هو البرلمان والدستور دون غيرهما، هي على وشك أن تجهض تلك اللحظة الإصلاحية النادرة المستندة إلى رجّة شعبية لافتة للأنظار، وداعية إلى إعادة ترتيب الأولويات وفق روزنامة تعطي الأسبقية للاجتماعي التشغيلي والصحي والغذائي والتعليمي وللأمن المجتمعي الشامل.

التداخل بين السياسي الوطني والنقابي المطلبي خصوصية تونسية بامتياز، استمرّت في مختلف ردهات التاريخ السياسي التونسي المعاصر

وقد استلهِم من قرار تجميد عمل البرلمان واختصاصات كل نوّابه وتعليق العمل بالدستور واستبداله بالأمر عدد 117 الذي جمّع كل الصلاحيات والسلطات في يد رئيس الجمهورية والانفراد بها، وتشكيل حكومة ضعيفة فاقدة للشخصيات المؤثّرة والبرامج والحلول والاستراتيجيات، وتعيين شخصياتٍ في مناصب حساسةٍ بمقاييس الولاء، واستدامة الإجراءات الاستثنائية لتأخذ مكان مؤسسات الدولة الشرعية، ومقاطعة الإعلام والإعلاميين والأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية، ورفض الحوار معها بشأن قضايا المجتمع والدولة، وفحوى الإصلاحات السياسية والاقتصادية المرتقبة، والاستعاضة عنها بالتبشير بيوتوبيا البناء القاعدي والشركات الأهلية، استلهِم منها رغبة الرئيس في إقصاء الطبقة السياسية برمّتها، فهو لم يكتف بإبعاد الحكومة ورئيسها هشام المشيشي، وحزامها السياسي المكوّن من حركة النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس المسؤولين مباشرة عن الانهيار الصحي والاقتصادي والمالي الذي أدّى إلى واقعة 25 جويلية، وإنما قطع كلّ حوار وتواصل مع المنظمات الوطنية والجمعيات المدنية والأحزاب السياسية العريقة التي شاركت في النضال الوطني وفي مقاومة الاستبداد وفي تشكيل المشهد الديمقراطي التعدّدي، قبل أن يصل الرئيس سعيّد إلى سدّة الرئاسة بسنوات طويلة.

ولم يعد خافياً اليوم أنّ جبهة الخيار الثالث أو اللقاء الوطني باتت متمايزة عن معسكر الرئيس الذي لم يبقَ فيه إلّا التنسيقيات والشرّاح والمفسّرون، الذين لا يملكون من الأفكار سوى بعض الهلوسات النظرية التي تعود إلى تجارب عاشتها البشرية في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، مثل كومونة باريس سنة 1871 ونظيرتها في المجر سنة 1919 والمجالس العمالية في إيطاليا سنة 1920 والمستنبطة من زواج الفوضوية بالماركسية التقليدية غير المجددة، التي أنتجت أيضاً فكرة التعاونيات التي يراد استنساخها خارج زمانها في ما بات يعرف بالشركات الأهلية.

جبهة الخيار الثالث أو اللقاء الوطني باتت متمايزة عن معسكر الرئيس الذي لم يبقَ فيه إلّا التنسيقيات والشرّاح والمفسّرون

لم يعد الخيار الثالث نزوة أو تعبيرا عن رغبة جامحة في الظهور والتعبير عن الذات، وإنما هو عنوانٌ للإنقاذ الوطني القائم على التعدّد في الانتماءات والآراء ووحدة الموقف للخروج من منطقة الخطر التي تهدّد كيان الدولة والمجتمع، من جرّاء شبح الإفلاس المالي والانجرار نحو نادي باريس للدول العاجزة عن سداد ديونها، وعُقم السياسات المتّبعة وغموض التوجهات وانسداد الآفاق الناتج عن قتل السياسة داخليا، وفقدان التواصل خارجيا، الأمر الذي أنتج عزلة بلد عن محيطيه الإقليمي والعالمي يرتبط معهما في الوقت نفسه بمعاهدات ملزمة وتبادلات مصيرية للأفراد والسلع والأموال.

ولا يمكن لهذا الخيار أن يعود إلى لحظة الاستبداد لما قبل سنة 2011 أو إلى لحظة الفساد الذي نخر مؤسسات الدولة، واستشرى في عروق الأحزاب السياسية الحاكمة ولوبياتها المالية وأذرعها الاتصالية بعد ذلك التاريخ، فقوى الإنقاذ الوطني مجبولةٌ على تنقية الحياة السياسية والإعلامية من الأدران التي علقت بها وإعادة التأسيس لديمقراطية نظيفةٍ وشفافةٍ تجسّدها انتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها، تكون مشفوعة بمجلة انتخابية جديدة، تُختبر فيها المشروعية الشعبية للأحزاب والشخصيات الوطنية الراغبة في خدمة الآخرين، عبر ممارسة السلطة، بما في ذلك شعبية الرئيس قيس سعيّد إن هو رغب في الترشّح، وتمثل مدخلا لإصلاحات سياسية عميقة، يعلنها أصحابها في صيغة برامج مستقبلية، حتى وإن كانت البناءات القاعدية والشركات الأهلية، في حملة انتخابية متكافئة الفرص، خاليةً من المال الفاسد والتدخل الأجنبي وأدوات تزوير الرأي العام وإرادته، وفوق ذلك كله وقبله، يلتزمون بالتداول السلمي على السلطة أسلوبا وحيدا للعيش المشترك، على الرغم مما يشقهم من اختلافات وتناقضات عميقة.

المصدر:https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AC%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%B0-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A

المقال لا يعبر عن رأي الوكالة وانما عن رأي كاتبه فقط 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 9