كتب مهند الحبيل: في فقه الانفصال والوحدة.. اليمن نموذجاً

2021.11.11 - 10:07
Facebook Share
طباعة

 ولدتُ وعشتُ في إقليم يَعرف تماماً معنى التمييز العنصري والظلم المناطقي ضدّه، وربما بما هو أقسى مما تعرّض له الجنوب العربي في اليمن، حيث عشنا تحت ثقافة احتقار وامتهان ممنهج للكرامة الإنسانية، لمجرّد أنك تنتمي لإقليم الأحساء، العريق في تاريخه وعروبته وإسلامه وحضارته الإنسانية، فأدركتُ مبكّراً كيف أفهم المشاعر المظلومة المغبونة، بسبب التوظيف السياسي للهيمنة على الأرض وثرواتها الكبرى أو موقعها الاستراتيجي.


والفتنة المناطقية والإقليمية في الوطن العربي، وفي حاضر العالم الإسلامي، وفي الشرق الكبير، لا تزال تتعدّد في جغرافيا الجنوب في آسيا وأفريقيا وغيرهما، والعزل بين الناس ومكوناتهم لم يكن حلاً لا في الماضي ولا الحاضر، وذهب ضحية هذه العنصريات العرقية أو الإقليمية ملايين من البشر، عاشت أوروبا تحت حروبها قروناً ممتدّة، وضبطَت الدولة المدنية هذه الصراعات بعنصرين مهمين: المرجع الدستوري الشامل، ومساحة الولايات والأقاليم والمناطق، من ثروتها ومن مساحة نظامها القانوني الفدرالي.


وعلى الرغم من أن تكتلات إقليمية كبيرة في إسبانيا وفي بريطانيا وغيرهما تسعى إلى الخروج من هذه الاتحادات إلى الاستقلال العام، إلا أن هذا التنظيم الفدرالي يُعتبر إنجازاً في تاريخ الإنسان المعاصر، وإن كنا لا نعرف هل سيتم الانفصال سلمياً، أم تعود موجة العنف إلى أوروبا الجديدة التي وُلدت بعد حروب بشعة، فحتى اليوم لا يمكن أن نعتبر أن الدولة المدنية في الغرب استكملت كل وسائط التنظيم السلمي، وأزمة الولايات المتحدة مع الفكرة العنصرية الانفصالية لا تزال قوية تمتد إلى كندا، على الرغم من خسارة ترامب.


من خلال كل تلك الأفكار، كنتُ أفهم معنى الثورة النفسية في شعب الجنوب اليمني، وكانت لدي شهادات مباشرة من عشرين عاما، قالها لي معلمون سعوديون، عملوا ضمن سياسة الدعم التعليمي في عدن، عن ما رأوه من إقطاع شرس حوّل مصالح الجنوب إلى علي عبد الله صالح وحلفائه من الزعامات القبلية والأحزاب، وهو أمرٌ تحدثتُ عنه في المقال السابق، وقلتُ إن المواطن الشمالي يُعاني أيضاً من الإقطاعيين البرجوازيين، وهم قلة قليلة مقارنة بشعب الشمال. لكن الإخضاع الإقطاعي كان أكثر شناعة في الجنوب. وعليه، كان هذا الغضب مفهوماً لدي، ولم أكن أعتبر من يدعو إلى الانفصال لمجرّد قناعته به خائناً، كما كان يروج في إعلام سعودي وشمالي أول الحرب، وكان يخضع لابتزاز سياسي، ما برح أن انقلب لصالح الجنوب ويهجم على الشمال بلغة طائفية، بعد أن تمكّنت أبوظبي من ضلع اللعبة في حرب اليمن. كما أن الفكر الإسلامي ورث التخوين في قضية الإيمان بالوحدة العربية، من العهد القومي الناصري الذي فشل في الجمهورية العربية المتحدة، وفي توحيد قوميي الشمال والجنوب في اليمن، حين ندمج التيارات القومية العربية بما فيها اليسار القومي بين الشمال والجنوب، فالحزب الاشتراكي (الشيوعي)، ظلت تدوّي منابره باسم الوحدة العربية، وهي أبعد ما تكون عن صنعاء. وبعد الوحدة الهشّة، أعلن الشيوعيون رفضها، فأعادها صالح بالدم، وتورّط الإسلاميون في لغة التوظيف التي لا علاقة لها بالإسلام.


تفكيك المساحة هنا بين الموقف السياسي والشعور الحقوقي، لأبناء الأقاليم والمناطق المتعدّدة، لا بد أن يكون حاضراً في التفريق بينه وبين الحكم الإسلامي الشرعي، ففي الحقيقة هناك مساحة مرنة للغاية في الفقه الإسلامي تتجاوز الفدرالية إلى ما يشبه الولايات المستقلة، المتعاضدة في الدفاع الأممي، وفي المشترك الاقتصادي، وهي ولاياتٌ مسلمةٌ بالضرورة، فلم يكن لاختلاف الأحكام الشخصية أو حتى المجتمعية دور، وإنما طرأ الإشكال مع مناطق من غير المسلمين أو مذاهب عقائدية مختلفة عن السُنة.


وهذا أيضا ممكن أن يضبط وينظم في مساحة الحق التشريعي، لكل ولايةٍ أو إقليم. القضية هنا أن فكرة التفتيت والانقسام التي تُدحرج على الدول العربية، تقوم على بنية صراع وحروب مهّدت لها هذه الأنظمة. وعلى الرغم من كل الضجيج الذي صنعته ثورة الإنقاذ السودانية، بشقّيها الشيخ حسن الترابي ثم علي عثمان طه، حول المؤامرة على تقسيم السودان، إلا أنهم تنافسوا بعد الصراع على مفاوضات الانفصال، بعد أن دخلت فيه روح الغرب الصليبية بشقيها، الكنسي والسياسي. ولم تصنع مبادرة توافق تحدّث عنها الشيخ الترابي مبكراً، وحفظها له جون قرنق، إلا بعد أن عُبئت آلة الحرب في زمن نفوذه بمصطلح الجهاد ضد الجنوبيين، فهل كانت جهاداً دينياً إذن، أم فشلاً في إيجاد مساحة تقاربٍ وطنية مع فرقاء الجنوب المسيحيين الذين كان للتوظيف الكنسي الدولي دور كبير فيهم.


أخلص هنا إلى أن مساحة الموقف من مشاريع الاستقلال أو الانفصال هي عارض لسياسة قمعية أو أداء هزيل أو لعبة مصالح دولية، وأن مساحة الاستيعاب لهذا الإقليم أو ذاك ممكنةٌ في إطار فدرالية لهذه المناطق، فأين ذلك اليوم من الأنظمة الشمولية، لا وجود له! ولكن الفرصة، في حالة جنوب اليمن، كانت كبيرة، حين تتحوّل الحرب مع الحكومة الشرعية إلى اتفاق ملزم للجميع، بأن يُعطى الجنوب حق النظام الفدرالي الشامل، وتُحدّد المرحلة الانتقالية مساحة الخلاف الجنوبي - الجنوبي وأقاليمه حتى التصويت على الاستقلال، ولا أرى بأساً في ذلك لهدف أكبر، فالحالة العسكرية اليوم تتجه إلى حسم الحوثي في الشمال، وبالتالي القول بقدرة الجنوب على الصمود، أو أن اتفاقات طهران الإقليمية ستوقفه هو رهان غبي، فحتى حلفاء الجنوب اليمني اليوم لن يكون تأمين الجنوب من الزحف الإيراني أولوية لديهم. ولذلك على أبناء الجنوب استثمار اللحظة، ووضع سكّة تفاهم عملية بدلاً من المراهقة مع حكومة الشرعية المنهارة، لكن هذا الضعف لا يمنع من توقيع اتفاقٍ يؤسّس لمستقبل أفضل، تتحوّل فيه الحرب إلى صد الغول الإيراني الذي لا يُقارن بشراكة أهلهم الفدرالية مع الشمال

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط. 


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 3 + 5