كتب مهند مبيضين: الأردن في واشنطن ونهائي التحديث السياسي

2021.09.27 - 11:27
Facebook Share
طباعة

 يحكم الملك عبدالله الثاني الأردن منذ عقدين، حوصر البلد فيهما وشهد أزمات إقليمية ومحليّة، وتأثر بأخرى عالمية، وليس أولها الحرب على الإرهاب بعد تفجيرات "11 سبتمبر" في العام 2001، ولا آخرها جائحة كورونا. وخلال عقدين تضخم سكان البلاد ضعف عددهم عام 1999 خمسة ملايين نسمة، وهم اليوم يتجاوزون العشرة ملايين ومائتي ألف نسمة. وهذا كله مع أزمات اللجوء من الجوار العربي، والتي ضاعفت تحديات البطالة والتنمية.


التزم الملك عبدالله الثاني بالدعوة إلى إجراء الانتخابات النيابية في ظلّ تلك الأزمات، وآخرها عام 2020 في غضون أزمة كورونا. وجرت محاولات للإصلاح والتحديث كثيرة، وكان جديدها أخيرا تشكيل لجنة تحديث المنظومة السياسية في يونيو/ حزيران الماضي، والتي أنهت قبل أيام اجتماعاتها، وتنتظر موعداً لتسليم نتائجها للملك، في محاور ستة: الأحزاب والانتخابات وتمكين المرأة والتعديلات الدستورية وتمكين الشباب والإدارة المحلية. 


في رسالة تكليف رئيس الوزراء الأسبق، سمير الرفاعي، وهو أحد أنجال الأسر السياسية الأكثر محافظة في مسيرة الدولة الأردنية، والأوفر حظاً بالاقتراب من الملك، بوصفه اليوم من جيل الأسرة الثالث المتحول إلى النهج الديمقراطي، والداعي إلى تعدّدية سياسية وبرلمان حزبي، يبدو الرفاعي مستوعباً عقدا من الزمن الأردني تركه، من حيث عدم إشغال وظيفة تنفيذية مع رحيل حكومته التي شكلها عام 2010، وخرجت من الدوار الرابع (جبل عمّان) على إثر تحدي الربيع العربي، فكان الاتعاظ من دروس العشرية الصعبة التي مرّ بها الأردن مهماً، لتخطّي كل تحديات لجنته، وإن اقتضى الأمر تطوّراً وتحولاً في الفهم العام لوظيفة رجل السياسة عنده، ليكون غير متحيز لجهة، من منطق المسؤولية العالية لكل سياسيٍّ يعمل في جهاز الدولة.


مع ذلك، لم تسلم لجنة التحديث التي نعتت بكبر عددها، وتميزت بتنوعها الفكري، من النقد والهجوم المجتمعي والنخبوي، ومع أنها خاضت حواراً طويلا مع مختلف مكونات المجتمع ثلاثة أشهر، وقامت بدراسة نماذج عالمية عديدة في مجال المحاور الستة، فقد كان عليها أن تقدّم، في النهاية، نتائج مقنعة للناس، ومضمونة التنفيذ بتعهد وضمانة ملكية، بعد أن بلغت دورها النهائي. ولعلّ الأهمية أيضاً ليس في المخرجات وحسب، أو في حدث التشكيل، أو في الموقف العام منها، والحروب التي شُنّت عليها، بل في راهنية توقيت ولادة اللجنة التي جاء التفكير بها مباشرة من الملك بعد انتخابات عام 2020 التي أتت بمجلس النواب التاسع عشر، والذي ظهرت فيه جليّة أعراض ضعف الخبرة لدى بعض النواب الجدد، وسوء الخيارات الشعبية، لكونها لا تأتي بفعل حياة حزبية ناجزة. وجاءت اللجنة أيضاً بعد ثلاثة عقود من التحول الديمقراطي الذي بدأ عام 1989، والذي لم يجدّد بعد في مسار عمل الحكومات، ويراقبها عبر الركن النيابي بشكل فاعل، كما أن الأحزاب السياسية، ومنذ صدور قانون عام رقم 32 لسنة 1992، لم تتطور في أدواتها وبرامجها السياسية، وبقيت عاجزة عن الانتشار الجماهيري.


إذن، حضرت لجنة التحديث السياسي، أو كما كانت قد نعتت على مواقع التواصل الاجتماعي بلجنة سمير، بعد عقود غير مقنعةٍ في عمل مؤسسات التحوّل الديمقراطي، عجز البرلمان بما لا يؤهله لإنتاج زعماء سياسيين، وإعطاء الأهمية في الدولة للموظفين من ماكينة مؤسساتها البيروقراطية، وتعاظم الفساد وتضاؤل الثقة بمؤسّسات الإدارة العامة، وهذا واقعٌ لا ينتج سياسيين محترفين، ولا زعماء وطنيين. ولذلك بقيت الأحزاب أقليّة، ولم تتحوّل إلى أكثرية جماهيرية.


في المقابل، كان السؤال عن تمثيل الشباب، في لجنة تحديثٍ ملكيةٍ، قدّمت مخرجاتٍ طيبةً لمستقبلهم، لكن جماهير عريضة من الشباب الأردني العريضة تبخّرت خلال عقد من الربيع العربي، وكان هناك إصرار على احتوائها أو إضعافها. ولم يكن هذا بديلا مقنعاً، وفي مصلحة الدولة على المدى البعيد، وظلّ قسم منهم يبحث عن رؤية أكثر واقعيةً لحاله ومآله. وحين التقى الرفاعي ممثلين عنهم، كان فيهم من الوطنية والروح العالية الكثير الكثير، وهم اليوم أكثر إدراكا للأزمات المحلية، وأكثر عمقا وعقلانية. ولعلهم اليوم أكثر قربا من التحوّل إلى تيار سياسي منظم، ولاحقا إلى حزب.


المهم اليوم ليس في فحص المواقف، سواء مع لجنة تحديث سياسي ملكية في الأردن أو ضدها، أو مدى الدعم الذي تلقته من الأجهزة الرسمية، كي لا توضع العصي في دواليب لجانها الفرعية، فقد كان الرهان على سمير الرفاعي بين منافسيه من نادي رؤساء الحكومات الذين ختم حوارات اللجنة معهم بالسؤال عن مدى استطاعته تجاوز عقدة الدولة العميقة في قانوني الانتخاب والأحزاب، وفي السماح للشباب بممارسة العمل الحزبي في الجامعات تحديداً، فهل كان يمكن ضمان حياد رجال الدولة العميقة تجاه ذلك؟ ربما تكون خلفية الرفاعي العائلية المحافظة سياسياً وقدراته وعلاقته بالملك، وإصرار الملك على النجاح هذه المرة أحد أسباب تجاوز تلك العقدة.


مع ذلك، لا يمنع هذا وجود مهدّدات للمخرجات، أولها الرهان على تحوّل المجتمع إلى الحياة الحزبية في غضون عقد مقبل، وصولا إلى برلمان بأغلبيةٍ حزبيةٍ برامجية، وثانيها حيادية الجهاز الوظيفي العام للدولة تجاه حركة التحوّل السياسي، ودفع الشباب إلى العمل السياسي واستيعاب المعارضة الوطنية ومعاملتها بشكل محايد دونما تحيز، وهناك نظام قديم سوف يقاوم التحوّل، وأحزاب ذات طابع فردي، لا تملك قيماً سياسية ناجزة ولا برامج، ومُشكّلة من سياسيين قذفت بهم لغة التمثيل الجهوي إلى مناصب عامة، وسيتضرّر كل من بقي ممثلاً للناس بصيغ تقليدية وحقوق موروثة في الزعامة.


زار الملك عبدالله الثاني واشنطن، بعد تشكيل اللجنة، ورشح من الزيارة أن الأميركان لم يسألوا ضيفهم عن اللجنة، وكان جلّ الحديث عن الاقتصاد، وعن الوضع في سورية، وعن لبنان. وفي لقاءاته مع نخب أميركية، دافع الملك عن بقاء الدولة اللبنانية صامدة، وطالب بدعم جيشها، ووضع كل جهده لفتح ممرٍّ آمن لعودة سورية إلى المنظومة العربية، والحيلولة دون نومها في الحضن الإيراني. وفي هذا السبيل، كانت زيارة الملك موسكو ولقاؤه الرئيس الروسي، بوتين، لتثبيت تفاهمات واشنطن، ثم كانت زيارات نخب خليجية كثيفة الأردن، في السياق المحوري نفسه الذي نجح الأردن فيه، بإعادة الاعتبار لدوريه، الإقليمي والعالمي.


نعم حمل الأردن إلى واشنطن أجندة كبيرة، نجح فيها، بعد سنوات عجاف مع زمن نتنياهو - ترامب، وقدّم الملك عبدالله الذي يعرف معنى رسوخ المُلك، والتبشير بجيل جديد في أسرة وسلالة حاكمة منذ أكثر من مائة عام في الأردن، وقبل ذلك في الحجاز قرونا، نجله الأمير الحسين إلى الإدارة الأميركية بوضوح، ما جعل دبلوماسيا غربيا رافق المستشارة الألمانية، ميركل، في زيارتها واشطن التي تزامنت مع زيارة الملك عبدالله ولقائه بايدن، يقول "إنها زيارة تشبه التي تمت أواخر الستينيات من القرن المنصرم، يوم جاء الراحل الملك الحسين، ومعه شقيقه الشاب الأمير حسن، وقدمه للأميركان بوصفه رجل تنمية الداخل..".


لقد توفرت للأردن دوماً فرص كبيرة في العلاقة مع الغرب، والولايات المتحدة تحديداً، كما توفر له دوماً خصوم إقليميون وعرب، يرومون منه محاذرةً في انتزاع دوره تجاه القدس وقضية فلسطين، لكن الرهان داخلياً لم يكن على حزبٍ عريضٍ يشكل الحكومات، بوصفه حزبا وطنيا حاكما أو على ثروة نفطية، ففي الأردن الملك وحده يملك صلاحيات تشكيل الحكومات، ووحده مُصانٌ من كل تبعة، حسب الدستور، وصلاحياته يستخدمها واستخدمها دوماً لمصلحة شعبه، بل كان الرهان على مسيرة التنمية والاستثمار بالدور والرّشد السياسي لدى الهاشميين، ودعم القبائل التي كانت وما زالت بوليصة التأمين ضد أي مهدّد خارجي. ذلك ما كان يقوله الراحل الحسين ويتأكد اليوم. والذين راهنوا على تزعزع علاقة الملك عبدالله الثاني بالعشائر، بعد حادثة الفتنة أخيرا، يجدون في زياراته، هو وولي عهده، لهم، عكس ما روّجته وسائل إعلام وتقارير كانت تهدف إلى زعزعة استقرار الأردن الذي يتكئ أيضاً على تعددية مجتمعية، فيها من كل البلاد العربية، وأكثرية منهم تنتمي لأصول فلسطينية جاءت إلى الأردن، وأسهمت بفرادة وبكل قوة في مسيرته الوطنية، وفي داخلها أيضاً توجد مجاميع عشائرية عريضة من بئر السبع وعرب التعامرة ومختلف بدو فلسطين، مع نخب علمية وإدارية منها، وافرة الحضور أردنيا وعربياً.


ختاماً، عقب التقدّم الذي حققه العاهل الأردني في واشنطن، كان يفترض أن تشتغل ورشة سياسية واقتصادية كبيرة في عمّان، لكن الكثير الذي جاء به الملك، لم يجد بعدُ حتى إعلاميا من يستثمر به لمصلحة البلد؟

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط 


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 6 + 7