بقلم أحمد عز الدين: ما قبل القدس وما بعدها ..!

2021.05.18 - 07:59
Facebook Share
طباعة

 

 

 

(1)

إذا تصور أحد أن ما حدث ويحدث في فلسطين التاريخية ، هو مجرد أكوام حطب أصابتها نيران عابرة فاشتعلت ، ثم سرعان ما تتحول إلى رماد تذروه رياح الوقت ، فهو لا يرى الواقع .

وإذا تصور أحد أننا لا نواجه تحولات ذات طابع إستراتيجي عريض وعميق ، لها وقع التاريخ ، وإيقاعه العنيف ، وأنها لذلك سوف تحفر بصماتها على وجوه سنوات قادمة ، فإنه لا يرى المستقبل .

وإذا تصور أحد أن الطاقة الهائلة التي تولدت داخل حدود فلسطين التاريخية ، سوف تدور على نفسها في دوامة مغلقة ، في مكانها وزمنها ، فسوف يغلق على نفسه أبواب دوامات أخرى قادمة ، لأنه إذا لم يتم التعامل معها وفق ما تقتضيه طبيعتها فسوف تتحول إلى طاقة سائبة في حدود إقليمية واسعة ، سيكون تأثيرها أبعد مدى مما يصوره كثيرون .

هذه لحظة كيفية جديدة ، بكل مستوى ، وبكل بعد ، ترتبت على تراكمات كمية امتدت عبر عقود ، كان آخر ما اعتلى سطوحها أولئك الذين سَكِروا في الفضاء المفتوح بنبيذ المستوطنات الإسرائيلية .

إن بمقدور كثيرين أن يراجعوا نتائج الطاقة السائبة الكبيرة ، التي ترتبت على مواجهات عام 1948 ، رغم أنها كانت معزولة ، ليتأكدوا أنها لم تمتد إلى الأنظمة والسلطات ،وإلى القوى السياسية والطبقات الاجتماعية فحسب ، بل امتدت حتى إلى عامود الشعر العربي التقليدي فحطمته.

(2)

هل نحن أمام حدث مصنوع وموجه ، هدفه إحداث فوضى إقليمية شامل ، أو القفز إلى حرب إقليمية واسعة ؟

أحسب أن ذلك لم يكن هو المطلوب تحديدا ، وأن السيناريو المصنوع الاول ، الذي اندفعت بعده المشاهد الواسعة التالية عليه ، كانت خروجا كاملا عليه ، فقد خرج السيناريو الصغير إلى حدود أوسع بكثير ، ولم تكن تلك إرادة أو رغبة أو استعداد ، أولئك الذين دفعوا به إلى ساحة القدس ، فقد وقعوا في خطأ إستراتيجي بالغ ، تحت وهم غطرسة القوة ، وسكون الآفاق من حولهم.

لقد جرى في الدائرة الضيقة الأولى للمشهد ، توظيف ما تم توظيفه من قبل ، استنساخا لما أطلق عليه ثورات الربيع العربي ، بيئة محتقنة مشحونة بقنابل قابلة للانفجار ، كل ما تحتاجه مفجر اصطناعي يصل الدائرة الكهربائية بشحنة القنابل ، لينتج درجة عالية من الحرارة ، كي يكتمل التفجير ، وهكذا كان إطلاق إيدي بل وأسلحة المستوطنين للاستيلاء على البيوت العربية في حي الشيخ جراح ، الذي يعني سقوطه في أيدي المستوطنين ، سقوط القدس في أيديهم ، وهكذا تم تحويل ساحة المسجد الأقصى إلى ميدان حرب ، تدافعت فيها القوات الخاصة والقناصة وأعضاء منظمة ( لافا الإرهابية ) التي تحظى بدعم مباشر من نتنياهو ، وتحول المشهد في جملته إلى مذبحة دموية ، كان المطلوب منها ومن التفجير ذاته ، أن يبرر للقمع الوصول إلى درجة كسر الإرادة بشكل غير قابل للجبر ، لينتهي أمر القدس كما هو مقرر سلفا .

غير أن التفاعلات الجانبية سرعان ما تحولت إلى تفاعلات رئيسية خرجت من حدود ساحة الأقصى ، ومن حدود القدس إلى فلسطين كلها وما وراء فلسطين ، فقد تصاعدت درجة الحرار حد الغليان ، وانتقلت بدورها دون ترتيب مسبق ، إلى داخل الخط الأخضر بكل مدنه وقراه ، وانشقت الأرض الفلسطينية فجأة عن تيار متدفق من الغضب والرفض ، سرعان ما أصبح سقفا ممتدا لحالة واسعة تخللت فلسطين التاريخية ، وبدلا من سيناريو وضع القدس في صندوق إسرائيلي مغلق ، وجدت مدن وقرى نفسها داخل صندوق فلسطيني مغلق ، أي خارج سيطرة الإدارة والقوات الإسرائيلية ، وبدا تعبير الحرب الأهلية الذي صاغه الرئيس الإسرائيلي ( ريفيلين ) هو الأكثر بلاغة في تصوير الواقع ؟

(3)

ليس عندي ما يمكن أن يتمدد حبال ثقة في حماس ، ولا في قيادتها السياسية ، فدور حماس لم يقتصر على تغذية الإرهاب وبسط يده في مواجهة الجيش المصري في سيناء ، ولم يقتصر على تعريض التراب الوطني المصري ذاته إلى مخاطر كبيرة ، فلم يكن دور قواها وفصائلها وهي تشرب حليب سوريا داخل الحضن السوري في ساحة الخطر وساعات الشدة مختلفا ، وهو أمر لم يكن يتم لصالح إيران كما يدعي البعض اليوم ، فمشكلة حماس في هذا الإطار هو التناقض المزمن بين كونها موضعيا ، تمثل جانبا من حركة تحرر وطني فلسطينية ، وكونها موضوعيا بنية تابعة لجماعة الإخوان المسلمين ، ولذلك فإن الموقف من حماس ينبغي أن يتم إيجابا أو سلبا على أساس تغليبها لأحد هذين الوجهين على الآخر ، رغم أنها قد لا ترى تناقضا بينهما ، وفي كل الأحوال فحماس ليست كل أذرع المقاومة في غزة ، وهي بالضرورة ليست غزة ، وغزة ليست فلسطين ، وفلسطين ليست جوارا مؤقتا ، وإنما جوار تاريخي ممتد ، بوشائج قربى لا تنفصم ، فوق أنه  يقع داخل إحداثيات الأمن القومي المصري .

فيما أحسب فإن حماس اندفعت إلى الدخول في ساحة المواجهة بغير ترتيب مسبق ، وأن اندفاعها كان محصلة عاملين أساسيين ، محفز طبيعي ، من جراء توقّد بالغ في الشعلة الفلسطينية بالداخل ، ومجموعة أخرى من المحفزات الخارجية ، ولدت ضغوطا بعضها إيجابي وبعضها على النقيض من ذلك .

(4)

أكثر علامات الخطر فيما حدث ويحدث بالنسبة لإسرائيل هو ما يخيّم على المستقبل ذاته ، بل ويهدد الوجود نفسه من القواعد ، وعند الأساس ، فقد بدت إسرائيل في صورة متناقضة تماما مع الصور التي دأبت على توزيعها على نفسها ، وعلى الإقليم والعالم ، على امتداد أكثر من 70 عاما ، وهي صورة مليئة بشقوق واسعة ، في الخلقة والتكوين بينما لا تقبل الرتق أو الإصلاح ، في مقدمتها وبالدرجة الأولى أن العناصر العميقة للتفكك الداخلي في بنيتها ، أكثر قوة وحيوية وتواصلا ، من العناصر الخاصة بالتماسك الداخلي ، وتلك هي أكثر علامات الخطر ، كما هي أوضح علامات الشيخوخة ، وفي مقدمتها – أيضا – ذلك الضعف الشديد المصاحب منذ البداية للتكوين ، والذي بدا الآن واضحا بشكل مذهل ، أكثر من أي وقت مضى ، في مسألة غياب ( العمق الإستراتيجي ) وهو ما جعل إمكانية الغمر بصواريخ أولية قادرة على إحداث آثار معنوية هائلة ، قبل الآثار المادية في قلبها ومدنها الرئيسية ، ولك أن تلاحظ في مسألة هذا العمق الإستراتيجي – مثلا – أن مدينة اللد نفسها التي خرجت عن السيطرة الإسرائيلية لا تبعد عن القدس أكثر من 38 كم ، وأن المسافة بين طولكرم وناتانيا حيث تتمدد كل مراكز القوة الإسرائيلية عسكرية ومدنية ، لا تزيد عن 15 كم .

لهذا فإن الخطر هنا ليس كامنا في انكشاف الردع الإسرائيلي ، أو في قوة الصواريخ التي طالت إسرائيل من حيث المدى الذي لم يتجاوز استثناءا 250 كم ، أو الرأس التدميرية التي لم تزد استثناءا عن 250 كجم ، وإنما في المعضلة المزمنة التي تضاعفت أعراضها المتعلقة بغياب هذا العمق الإستراتيجي ، وهو ما يجعل نظرية الردع الإسرائيلية مستهلكة وغير رادعة ، داخل حدودها .

(5)

ماذا بمقدور إسرائيل أن تفعل ؟

ليس لديها ما تفعله ، غير أن تمضي في تكسير عظام الفلسطينيين في الداخل ، فهي تريد تطويع الداخل كليا ، باستخدام كل أدوات القمع ، المدججة بالسلاح ، وكل ما في صدور المستوطنين من غل ، وما في أيديهم من أسلحة نارية وسكاكين وعصي ، وهي تريد على الجانب الآخر قطع اليد التي امتدت بالصواريخ إلى عاصمتها ومدنها ، وأظهرت عقم عمقها الإستراتيجي ، وإسرائيل جريحة ليس في ذلك شك ، ومضطربة ليس في ذلك شك ، ومنقسمة بغير شك ، لكنها لا ترى بديلا لإعادة إنتاج صورتها السابقة بغير إحراق غزة ، لا صورة غزة فحسب ، ولا ترى بديلا عن رفع قيمة أسهمها المتداعية ، بعيدا عن بورصة الدم الفلسطيني ، لكن ذلك كله ومهما بلغ مداه ، لن يغطي على ما لحق بالردع الإسرائيلي ، ولن يضيف عمقا إلى ما ظهر من غياب العمق الإستراتيجي ، كما أنه وهو الأهم لن يجعل عوامل التوحد في الداخل أكثر قدرة على مواجهة عوامل التفكك التي تنشط من أعلى ومن أسفل .

وظني لذلك أن أمريكا أكثر خشية وقلقا على إسرائيل ومستقبلها في الإقليم ، من إسرائيل نفسها ، ولكنها منصاعة تماما لجنوحها المدمر ، نحو توسيع وتعميق بركة الدم الفلسطينية ، وقد ندبت نفسها لحمايتها ، من غضب عربي ودولي عارم ، وهي بالتالي تشاركها عمليا في عمليات الذبح والهدم والتنكيل .

(6)

هذا إنقلاب إستراتيجي أخرجته قوانين الطبيعة العربية ، في مواجهة هذا الإنقلاب الإستراتيجي الشامل ، الذي كان يجري على قدم وساق في أنحاء الإقليم ، ولا أظن الآن أن حسابات التفاعل بين توجهين عكسيين ومتناقضين ، يمكن أن تكون قابلة للتحديد على نحو دقيق ، لكنه في الحد الأدنى يمكن التأكيد على ما سبق وأن أكدته في أعقاب الفتح الإستراتيجي لضرب العراق من أن مشروع السلام الإقليمي قد سقط إستراتيجيا ، ولذلك يمكنك الآن أن تكتب بخط جرئ أن صفقة القرن والمشروع الإبراهيمي ، قد سقط بدورهما إستراتيجيا .

لذلك لا تعير انتباها لأولئك الذين ما برحوا يصطادون أسماكا ميتة من بركة أيام وسنين خلت ، فثمة مياه جديدة قد تدفقت في المجرى الواسع للبحر العربي .

http://ahmedezzeldin.com/subject.aspx?ID=2650

 

المصدر موقع الاستاذ احمد عز الدين.

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 4 + 8