كتبَ محمود عثمان: العلاقات التركية ـ اليونانية بين الماضي والحاضر

2021.04.20 - 10:22
Facebook Share
طباعة

 جاءت زيارة وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس لأنقرة، أخيراً، في وقت تشهد فيه علاقات تركيا مع الأطراف المعنية بشرق المتوسط تحسنا ملحوظا، بدءاً من دول الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها فرنسا، إلى تبادل الرسائل الإيجابية مع مصر، وتقدم الحل السياسي في ليبيا.


مجمل التطورات الحاصلة قبيل اللقاء، كانت تشير إلى أن الزيارة قد تفضي إلى تأسيس جسر من حسن النوايا بين البلدين، تمهيداً لحل الخلافات، والوصول إلى توافقات في الملفات العالقة. وفعلا سارت الاجتماعات بجو من الحميمية والصراحة أشاد بها الوزير الضيف.


لكن ديندياس فاجأ الجميع باتهام أنقرة خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره التركي مولود تشاووش أوغلو، وأظهر أنه حريص على توجيه رسائل للرأي العام الداخلي اليوناني من جهة، ولشركائه الأوروبيين من جهة أخرى.


الأمر الذي أوحى بأن الزيارة جاءت نتيجة ضغوط أوروبية على أثينا. وإلا فماذا يبرر خروجه عن اللباقة الدبلوماسية وتسميمه الأجواء؟ رغم حفاوة الاستقبال التي حظي بها، وحرْص المسؤولين الأتراك على أن تخرج الزيارة بنتائج إيجابية.


وتأكيدا على أهمية الحوار مع الجارة المشاغبة، حرصت أنقرة على بذل أقصى الجهود من أجل إنجاحها. فقد استقبل الرئيس رجب طيب أردوغان ضيفه اليوناني في القصر الرئاسي، كما أقام وزير الخارجية تشاووش أوغلو مأدبة إفطار على شرفه.


ديندياس قال إنه أجرى مباحثات صريحة وصادقة مع الجانب التركي في أنقرة، وناقش القضايا العالقة، مؤكدًا ضرورة الإبقاء على قنوات الاتصال مفتوحة بين البلدين.


وأشار إلى أن تركيا أكدت مرات عدة بأن هدفها الاستراتيجي نيل عضوية الاتحاد الأوروبي، فيما رحّب بانطلاق المباحثات الاستكشافية بين أنقرة وأثينا، والسياسية بين وزيري الخارجية لمناقشة المسائل العالقة.


ولم يُخفِ ديندياس اتفاقه مع تشاووش أوغلو على تطوير تعاون البلدين في مختلف المجالات، آملاً بتطوير العلاقات الاقتصادية، معتبراً أنه من خلال تحسين التعاون الاقتصادي، يمكن تغيير المناخ الحالي في العلاقات التركية اليونانية إلى الأفضل.


كما أعرب ديندياس عن دعم اليونان لنيل تركيا عضوية الاتحاد الأوروبي، قائلاً: "باعتبارنا بلدين جارين، فإن كلا الطرفين يمكن أن يكسبا الكثير من عضوية تركيا في الاتحاد".


** تهديد وخروج عن حدود اللباقة الدبلوماسية


خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره التركي، خرج وزير الخارجية اليوناني عن حدود اللباقة الدبلوماسية، فاتهم تركيا بأنها زادت بشكل كبير من انتهاكاتها في بحري المتوسط وإيجة، وبانتهاك سيادة وحقوق ما سماه "جمهورية قبرص"، زاعماً أن تلك الأعمال تشكل عقبة أمام إيجاد مناخ من الثقة بين البلدين.


ورأى ديندياس أن اليونان تواجه "خطر الحرب" بسبب ممارسة حقوقها بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، والقانون الدولي. وأردف متهما تركيا في هذا الشأن: "هذا بالطبع لا يتوافق مع علاقات حسن الجوار ولا مع اتفاقية الاتحاد الأوروبي والقانون الدولي. وبما أن هذه الاتفاقية قد تم التصديق عليها من قبل الاتحاد الأوروبي، فهي الآن جزء من المكتسبات الأوروبية".


وتطرق إلى اتفاقية تحديد الصلاحية البحرية بين تركيا وليبيا أواخر 2019، قائلاً إن "مجلس أوروبا أدان المذكرة الموقعة بين تركيا وليبيا، لأنها تنتهك الحقوق السيادية للدول الأخرى ولا تتوافق مع القانون الدولي"، وفق رأيه.


** أهم الخلافات والقضايا المزمنة بين تركيا واليونان


ثمة تباين واضح في وجهات النظر بين كل من أنقرة وأثينا، لعل أهمها النقاط التالية:


ـ الخلاف في بحر إيجة


تعتبر الجزر الموجودة في بحر إيجة أبرز الملفات الخلافية حساسية في العلاقة بين تركيا واليونان، حيث يتجلى نزاع السيطرة على المجال البحري والجوي في بحر إيجة.


وبسبب عدم التفاهم، تتكرر المناوشات والمضايقات بين القوات الجوية والبحرية للجانبين، تطورت في بعض الأحيان إلى اشتباك عسكري، وسط تحذيرات دولية من إمكان أن تؤدي إحدى هذه المناوشات إلى اشتباك عسكري أوسع بين البلدين، خصوصاً أن حدة التوتر في تصاعد منذ مطلع التسعينيات، وسط سباق تسلح بين البلدين.


في عام 1995، أعلنت تركيا أن توسيع اليونان مجالها البحري والجوي سيعتبر سببًا للحرب، لا سيما أن المطالب اليونانية لم تقتصر على المجال البحري، بل تعدته إلى المجال الجوي أيضا، وذلك حين أعلنت اليونان مد مجالها في بحر إيجة من 6 إلى 10 أميال.


ـ الخلاف حول جزيرة قبرص


دخل العثمانيون جزيرة قبرص عام 1571، بعد جلاء البنادقة الإيطاليين عنها، وحل محلهم السكان الأتراك. ومنذ ذلك التاريخ، ظلت قبرص تابعةً للدولة العثمانية طوال ثلاثة قرون.


شهدت الجزيرة، الواقعة في أقصى شرق البحر المتوسط، فترات من الاستقرار والازدهار، وفترات أخرى من الاضطراب السياسي والاجتماعي. وفي 1878 تنازلت الدولة العثمانية عن قبرص لصالح بريطانيا، بموجب معاهدة سرية تعهدت فيها بريطانيا بأن تساعد تركيا في دفع الخطر الروسي عنها. لكن بريطانيا ألغت هذه المعاهدة خلال الحرب العالمية الأولى، وأعلنت في 1925 أن قبرص "مستعمرة ملكية".


ظلت قبرص تحت الوصاية البريطانية حتى نالت استقلالها عام 1960، بعدما اتفقت الدول الثلاث: بريطانيا، وتركيا، واليونان، على طريقة الحكم في الجزيرة.


وتم الاتفاق على أن يكون هناك التزام في الدستور القبرصي بمشاركة الأقلية التركية في الحكم. لكن الغالبية اليونانية التي تشكل نحو ثلثي سكان الجزيرة، لم تنفذ ما عليها من التزامات، فنشب خلاف بين الطرفين تطور حتى أصبح يعرف بـ "المشكلة القبرصية".


في عام 1974 تحرك الحرس الوطني القبرصي، المكون من ضباط موالين للحكم العسكري في اليونان واحتلوا القصر الجمهوري، وحاولوا قتل الرئيس مكاريوس الثالث. لكنه، بعدما نجا وحضر الجمعية العامة للأمم المتحدة في واشنطن، أعلن أن بلاده محتلة من جانب اليونانيين.


على الفور، تحرك الجيش التركي لحماية الأقلية التركية الموجودة في الجزيرة، وإعادة الوضع السياسي لقبرص إلى طبيعته. ومن ثم أعلنت تركيا الجزء الشمالي من الجزيرة فيدرالية تركية في العام 1983.


أدى قبول قبرص الجنوبية عضوا في الاتحاد الأوروبي إلى مزيد من التعقيد للأزمة، وبات الأمر يشكل عائقاً أمام تركيا في حدودها البحرية. وربما كان ذلك هو المقصود أساسا من قبول عضوية بلد يعاني من أزمة على مستوى دولي، وهو ما يتعارض مع قوانين الاتحاد الأوروبي ذاته.


وبينما تؤكد تركيا ضرورة التفاوض على أساس حل الدولتين في قبرص، بعد فشل مفاوضات الحل الفيدرالي، طوال نصف قرن، تصر اليونان على فرض الحل الفيدرالي في الجزيرة.


ومنذ انهيار محادثات إعادة توحيد الجزيرة التي جرت برعاية الأمم المتحدة في سويسرا في يوليو/ تموز 2017، لم تُجرَ أي مفاوضات رسمية بوساطة أممية لتسوية النزاع في قبرص.


ـ الخلاف حول الجرف القاري


تعتمد اليونان على الجرف القاري في رسم الحدود مع تركيا، ضمن الجزر والمناطق المتنازع عليها في بحر إيجة. ويُعرف الجرف القاري بأنه الامتداد الطبيعي لليابسة داخل البحار والمحيطات. وهو بالنسبة لأية دولة ساحلية، قاع وباطن أرض المساحات المغمورة التي تمتد ما وراء البحر الإقليمي. وللدولة الساحلية حقوق سيادية على جرفها القاري.


وبحسب قانون البحار الدولي الأول، الصادر في جنيف عام 1958، وقانون البحار الدولي الثاني في 1960، فإن منطقة شرق المتوسط هي منطقة اقتصادية خالصة لمصر وتركيا. إلا أنه بعد قانون البحار الدولي الثالث في 1982، أعلنت اليونان جرفاً قارياً لها بعمق 12 ميلاً بحرياً، الأمر الذي أثار حفيظة تركيا.


وتعمل اليونان، في السنوات الأخيرة، على محاولة توسيع جرفها القاري، على الرغم من أن الجزر التي تسيطر عليها أكثر قرباً إلى تركيا منها إلى اليونان.


وخلال الأيام الماضية، أعلنت اليونان ومصر توقيع اتفاقية لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخاصة بالجرف القاري للبلدين. ولم يتم الإفصاح عن تفاصيل النص الرسمي للاتفاقية حتى الآن. ويرى الأتراك أن ذلك يهدف إلى محو الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، فضلاً عن تضرر خط الملاحة التركي.


وسبق هذا الاتفاق بعدة أشهر اتفاقية أخرى وقعها قادة قبرص واليونان وإسرائيل، في أثينا في 2 يناير/ كانون الثاني 2020، لمد خط أنابيب الغاز المعروف بـ "إيست ميد"، بطول 1900 كيلومتر لنقل الغاز الطبيعي من منطقة شرق البحر المتوسط إلى أوروبا.


وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، أبرمت الحكومة التركية مع حكومة الوفاق الليبية، اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين في البحر المتوسط.


وتبذل اليونان جهودا استثنائية لحبس تركيا في حدود اليابسة، والحيلولة دون استفادتها من شواطئها ومياهها الإقليمية، وخصوصا في شرق المتوسط، متسلحة بالدعم الأوروبي، والفرنسي منه على وجه الخصوص.


في مقابل ذلك، تبدو تركيا أكثر تصميما من أي وقت مضى على عدم التفريط بحقوقها البحرية في ما باتت تسمّيه "الوطن الأزرق".


ـ رفض أثينا الاعتراف بالأقلية التركية في اليونان


بموجب اتفاقية التبادل السكاني الموقعة بين اليونان وتركيا في 30 يناير/ كانون الثاني 1923، جرى استثناء المسلمين الأتراك الذين يسكنون ما بين نهر مريج (إيفروس) الذي يفصل بين حدود البلدين، حتى مدينة "قوله" ونهر "قره صو" في اليونان من التبادل، ليكتسبوا صفة "أقلية" بموجب اتفاقية لوزان (1923).


ويبلغ عدد أبناء الأقلية التركية في منطقة تراقيا الغربية في اليونان نحو 150 ألف نسمة، ترفض السلطات اليونانية منحهم صفة أقلية تركية، وتقتصر على الاعتراف بهم كأقلية مسلمة فقط. وهم يعانون من مشكلات اجتماعية وحقوقية ودينية، إذ لا يُسمح لهم بانتخاب أئمتهم وممثليهم، ما يحرمهم من حقوقهم المنصوص عليها في معاهدة لوزان.


في مقابل ذلك، تتمتع أقلية الروم الأرثوذكس بكامل الحريات كأقلية رومية معترف بها في تركيا. وقد زار ديندياس بطريرك الروم الأرثوذكس بارثولوميوس، واستمع منه إلى هواجس الأقلية الرومية في تركيا. لكنه في معرض حديثه في هذا الإطار، تجاهل الوجود التركي في بلاده، قائلا: "هنا أتيحت لي الفرصة لأقول ذلك، نعم هناك أقلية مسلمة في اليونان، وفقًا لمعاهدة لوزان، فإن الأقلية هنا مسلمة".


** المحادثات الاستكشافية


تُستخدم المحادثات الاستكشافية، كمصطلح دبلوماسي للإشارة إلى المفاوضات بين دولتين من أجل إيجاد حلول دائمة للمشكلات في المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها.


بدأت المفاوضات الاستكشافية للمرة الأولى بين تركيا واليونان عام 2002، من أجل إرساء عملية الحوار التي بدأتها النخب السياسية في تلك الفترة من خلال استخدام أدوات الدبلوماسية. واستمرت اجتماعاتها حتى عام 2016، ثم استؤنفت مطلع هذا العام، بعد توقف استمر 5 سنوات.


وتجري المحادثات الاستكشافية من خلال آليات حوار متنوعة، بمشاركة وفود تقنية، برعاية وزارتي الخارجية في البلدين.


ثمة رغبة شعبية لدى الطرفين في تجاوز المشكلات التاريخية المزمنة. لكن تعنت المؤسسات السياسية، وضغوط التيارات القومية، عمقت تلك المشكلات بدل حلها، لدرجة أنه لم تكن هناك أي نتيجة إيجابية ملموسة من الاجتماعات الاستكشافية الستين التي عقدت حتى الآن.


** استراتيجية اليونان في التعاطي مع تركيا


سبق زيارة وزير الخارجية اليوناني، الأخيرة، نقاش داخلي محتدم، إذ شككت أحزاب المعارضة اليونانية في جدوى هذه الزيارة، خصوصا أنها تأتي في ظروف تشهد فيها العلاقات بين البلدين حالة من التوتر والاحتقان الشديد.


وبدا واضحا خلال الزيارة أن ديندياس كان معنيا بالرد على أولئك المنتقدين، بتوجيه رسائل إلى الداخل اليوناني مفادها: "ها أنذا قد ذهبت لأنقرة، وهاجمت الأتراك في عاصمتهم وعقر دارهم".


خلال تعاطيهم مع تركيا، يتبع اليونانيون على الدوام استراتيجية الاحتماء والاختباء وراء أوروبا، والتلويح بسيف العقوبات الأوروبية، مستغلين حرص بعض الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا، على لعب الورقة اليونانية والقبرصية، من أجل إبقاء تركيا خارج منظومة الاتحاد الأوروبي.


وبدا الوزير اليوناني، خلال الزيارة، أنه يتكلم باسم أوروبا أكثر من قادة الاتحاد الأوروبي أنفسهم. وكأن قارة أوروبا، باتحادها وبرلمانها، قد اختزلت باليونان، أو كأن مصالح الدول الأوروبية جمعاء قد تلخصت في مطالب أثينا التعجيزية التي لا تنتهي.


بمقارنة بسيطة بين تصريحات وزير الخارجية اليوناني، وتصريحات كل من رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين، ورئيس مجلس الاتحاد الأوروبي شارل ميشيل، اللذين زارا تركيا قبل أيام، نجد فارقاً شاسعا في الرسائل والأسلوب الدبلوماسي.


فبينما حمل المسؤولان الأوروبيان في حقيبتيهما لأنقرة، ما سمياه "الأجندة الإيجابية" بهدف تحسين العلاقات الثنائية بين تركيا والاتحاد الأوروبي، واتسمت تصريحاتهما بالإيجابية والتركيز على القواسم المشتركة بين الطرفين، يخرج الوزير اليوناني عن حدود اللباقة الدبلوماسية، متهما تركيا بأنها على أهبة الاستعداد لمهاجمة بلده، ومن دون أن يتردد في هز عصا العقوبات الأوروبية في وجه أنقرة.


الاستراتيجية اليونانية باتت واضحة للعيان، فهي تقوم على مد جزرة العلاقات الاقتصادية من جهة، في مقابل هز العصا في وجه تركيا إذا ما قامت بممارسة حقها الطبيعي في التنقيب عن الثروات الطبيعية في حوض البحر الأبيض المتوسط.

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 9