رغم التغييرات السياسية التي شهدتها دمشق خلال الأشهر الماضية، ما تزال ظلال الماضي حاضرة في زنازينها.
ففي شهر تشرين الأول، سُجّلت ثلاث حالات وفاة لمعتقلين داخل مراكز احتجاز تابعة لحكومة دمشق الجديدة، في مؤشر مقلق على استمرار السياسات القمعية والإهمال الطبي الذي طالما ارتبط بممارسات أجهزة الأمن السورية على مدى عقود.
ثلاث حكايات من الداخل
في السابع من تشرين الأول، تلقت عائلة شاب من حي كرم اللوز في حمص نبأ وفاته بعد اختفائه منذ كانون الثاني، عقب توقيفه على حاجز أمني في المدينة. الشاب الذي لم يُعرف مكان احتجازه طوال تسعة أشهر، ظهر فجأة في صورة مسرّبة من أحد المشافي وقد فارق الحياة، قبل أن تُدفن جثته في مقبرة جماعية بتعليمات أمنية صارمة، من دون تسليمها لعائلته أو السماح بإجراء أي تحقيق.
بعد أقل من عشرة أيام، لقي شاب من ناحية الصفصافة بريف طرطوس حتفه داخل السجن المركزي في المدينة. كان يعمل بائعًا للخبز، واعتُقل إثر مشادة كلامية بسيطة. لم يمض وقت طويل حتى أُعيد جثمانه إلى ذويه وعليه آثار تعذيب واضحة، في حادثة هزّت الرأي العام المحلي وأعادت التساؤل حول مدى التزام الحكومة الجديدة بوعودها في "إصلاح المنظومة الأمنية".
أما الحادثة الثالثة، فكانت الأكثر رمزية: وفاة طارق حبيب اسمندر، القائد العسكري السابق لمطار تفتناز، داخل أحد سجون طرطوس بعد نحو خمسة أشهر على توقيفه دون محاكمة علنية.
اسمندر، الذي خدم في مواقع قيادية خلال فترة نظام الأسد، أصبح اليوم أحد ضحايا السجون التي كان جزءًا من بنيتها، في مشهد يلخّص كيف يمكن لآلة الاعتقال أن تلتهم أبناءها أيضًا.
ماضٍ لم يُمحَ
رغم حديث الحكومة الجديدة عن "عهد من العدالة والمحاسبة"، تؤكد هذه الحوادث أن ثقافة العنف الأمني لم تُستأصل بعد.
ففي ظل غياب أي رقابة قضائية أو إنسانية على السجون، ما تزال ممارسات التعذيب وسوء المعاملة تتكرر، وسط صمت رسمي وتعتيم إعلامي.
ويقول حقوقيون إن استمرار الوفيات تحت التعذيب يُعدّ جريمة ضد الإنسانية، محذّرين من أن تجاهل هذه الملفات سيؤدي إلى فقدان الثقة الشعبية بالحكومة الجديدة في وقت تسعى فيه لإثبات شرعيتها داخليًا ودوليًا.
كما يشير مراقبون إلى أن عودة الانتهاكات داخل المعتقلات تُرسل رسائل سلبية للمجتمع السوري، بأن “الوجوه تغيّرت، لكن الأساليب لم تتبدّل”، وهو ما يثير مخاوف من إعادة إنتاج منظومة الخوف القديمة تحت لافتات جديدة.
معركة الشرعية تبدأ من الزنازين
يرى محللون أن حكومة دمشق الجديدة أمام اختبار حقيقي يتعلق بقدرتها على تفكيك إرث الانتهاكات التي راكمها النظام السابق.
فملف المعتقلين، الذي يمثّل جرحًا مفتوحًا في الذاكرة السورية، لا يمكن تجاوزه بخطابات سياسية أو دعوات للمصالحة دون إجراءات ملموسة تشمل المحاسبة والشفافية وإشرافًا قضائيًا مستقلاً على أماكن الاحتجاز.
إن تجاهل هذه الجرائم أو التعامل معها على أنها “حوادث فردية” يعني في الواقع استمرار بنية القمع التي أطاحت بالنظام السابق.
فمن دون عدالة واضحة، لا يمكن بناء دولة جديدة تختلف في جوهرها عمّا سبقها.
ثلاثة أسماء فقط خرجت إلى الضوء في تشرين الأول، لكن وراء كل اسم آلاف الصرخات المكتومة، وآلاف الأسر التي تنتظر خبرًا واحدًا: أن يكون أحباؤهم ما زالوا على قيد الحياة.