بين التهدئة والحرب المؤجلة.. كيف تغيّر إسرائيل قواعد اللعبة على حدود لبنان؟

أماني إبراهيم

2025.10.31 - 11:50
Facebook Share
طباعة

 

تواصل إسرائيل تصعيدها العسكري اليومي ضد الجنوب اللبناني، ضاربةً عرض الحائط بكل الاتفاقات الدولية والقرارات الأممية، في مشهد يؤكد أن التهدئة لم تكن سوى وهم إعلامي لا وجود له على الأرض.
فمع الساعات الأولى من صباح الجمعة، نفذت طائرة مسيّرة إسرائيلية غارة جديدة على بلدة كونين في قضاء بنت جبيل، أسفرت عن مقتل مدني وإصابة آخر بجروح خطيرة، في استمرارٍ لسلسلة من الاعتداءات التي لم تتوقف منذ أشهر.

الهجوم الذي استهدف دراجة نارية في قلب البلدة، يأتي ضمن سياسة ممنهجة تتبعها تل أبيب تقوم على القصف اليومي المتقطع، واستهداف مناطق مدنية بحجة وجود نشاطات لـ"حزب الله"، في وقتٍ يعاني فيه الجنوب من دمار متواصل وقلق دائم.


هذه الغارات لم تعد مجرد "خروقات" لوقف إطلاق النار، بل جزء من استراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد تهدف إلى استنزاف البيئة الجنوبية وفرض واقع ميداني جديد يكرّس الردع الإسرائيلي ويفكك معادلة التوازن التي فرضها "حزب الله" منذ حرب تموز 2006.


بحسب بيان وزارة الصحة اللبنانية، أدى الهجوم إلى مقتل شخص وإصابة آخر بجروح خطيرة، بينما هرعت فرق الدفاع المدني والصليب الأحمر إلى موقع الانفجار وسط حالة من الذعر في البلدة.
وأفادت مصادر محلية بأن الطائرة الإسرائيلية استهدفت دراجة نارية كان يستقلها شخصان، دون أن تؤكد الجهات الرسمية ما إذا كان المستهدفان من عناصر "حزب الله" أم مدنيين.

هذا النوع من العمليات أصبح مألوفًا في الجنوب اللبناني منذ انتهاء الحرب الأخيرة في ربيع 2024، إذ تعتمد إسرائيل الاغتيالات الجوية الدقيقة بطائرات مسيرة صغيرة، غالبًا داخل القرى الحدودية، متذرعة بأن المستهدفين "يعملون على إعادة بناء البنية التحتية العسكرية لحزب الله".

لكن الملاحظة اللافتة هي أن الغارة جاءت بعد أيام فقط من تحذير الجيش الإسرائيلي من "نشاطات مشبوهة" على الجانب اللبناني من الحدود، وهو ما فُسّر في حينه على أنه تمهيد لاستئناف العمليات المحدودة رغم سريان وقف إطلاق النار.

اتفاق التهدئة.. وثيقة هشة

وقّع اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله" في نوفمبر 2024، بوساطة فرنسية – قطرية، بعد شهور من القتال المتبادل الذي شمل قصفًا كثيفًا على البلدات الحدودية من الجانبين.
وينص الاتفاق على:

وقف العمليات العسكرية المتبادلة جنوب نهر الليطاني؛

نزع السلاح الثقيل في نطاق عشرين ميلاً بمحاذاة الحدود؛

وانتشار الجيش اللبناني بمساندة قوات "اليونيفيل" الدولية لمراقبة التنفيذ.

غير أن إسرائيل، وفق البيانات اللبنانية والأممية، خرقت الاتفاق أكثر من 4500 مرة منذ دخوله حيّز التنفيذ، عبر غارات جوية، تحليق مكثف للطائرات، واستهدافات محددة لمواقع مدنية.
كما واصلت احتلال خمس تلال لبنانية في منطقة العرقوب، إضافة إلى مناطق حدودية أخرى ما زالت تحت السيطرة الإسرائيلية منذ عقود.

وفي المقابل، يتهم الجيش الإسرائيلي "حزب الله" بأنه أعاد بناء جزء من ترسانته الصاروخية في محيط مرجعيون وبنت جبيل، وأنه ينقل معدات مراقبة وأسلحة خفيفة داخل نطاق الحظر المفروض بموجب القرار الدولي 1701.

الموقف اللبناني – الدفاع عن السيادة

أثارت الغارة الأخيرة موجة استنكار في الأوساط السياسية اللبنانية، إذ أكدت وزارة الخارجية أن "العدوان الجديد يمثل انتهاكًا صارخًا للسيادة الوطنية"، مطالبة الأمم المتحدة بـ"تحمل مسؤولياتها تجاه التعديات الإسرائيلية المتكررة".

الرئيس جوزيف عون، الذي يقود حاليًا مسارًا لإعادة هيكلة الجيش وتعزيز سلطته جنوب البلاد، دعا إلى استكمال عملية نزع السلاح جنوب الليطاني وفق نص الاتفاق، معتبراً أن "الدولة وحدها يجب أن تحتكر حق استخدام القوة".
بدوره، شدد رئيس الوزراء نواف سلام على ضرورة "فرض سلطة الدولة في كل المناطق اللبنانية دون استثناء"، في إشارة ضمنية إلى ضرورة إنهاء الازدواجية بين الجيش و"حزب الله" في الجنوب.

لكن هذه الدعوات، رغم مشروعيتها الدستورية، تصطدم بواقع ميداني معقّد، إذ لا يزال الحزب يتمتع بنفوذ عسكري وشعبي قوي في الجنوب، فيما يعاني الجيش اللبناني من نقص في التمويل والعتاد، ويواجه ضغوطًا هائلة للحفاظ على الاستقرار الداخلي وسط أزمة اقتصادية خانقة.

"حزب الله" بين ضبط النفس وحسابات الرد

حتى ساعة إعداد هذا التقرير، لم يصدر تعليق رسمي من "حزب الله" بشأن الغارة على كونين، ما يعزز الانطباع بأن الحزب يتجنب التصعيد المباشر في هذه المرحلة.
لكن مصادر مطلعة في بيروت تقول إن الحزب "لن يمرر العدوان دون ردّ"، وإن الرد قد يأتي في التوقيت والمكان المناسبين، على نحوٍ يوازن بين الردع وضبط النفس.

الواقع أن الحزب يواجه معادلة دقيقة منذ توقيع وقف إطلاق النار:

من جهة، يريد تجنب مواجهة شاملة قد تجرّ لبنان إلى حرب جديدة.

ومن جهة أخرى، لا يستطيع الصمت أمام خروقات إسرائيلية متكررة قد تضعف صورته داخليًا وإقليميًا.

ويرة محللون هذه الضربات الإسرائيلية على أنها محاولات مدروسة لاستفزاز الحزب ودفعه إلى ردّ محسوب يمكن لإسرائيل استخدامه ذريعة لاستئناف العمليات.
في المقابل، يسعى "حزب الله" إلى تثبيت معادلة جديدة قوامها أن أي استهداف مباشر للبنان سيقابله ردّ متناسب في العمق الإسرائيلي، دون الانزلاق إلى حرب مفتوحة.

إسرائيل تكسر خطوطها الحمراء

من الجانب الإسرائيلي، تبدو العمليات في الجنوب جزءًا من استراتيجية ضغط مستمرة على لبنان و"حزب الله"، تهدف إلى منع الحزب من إعادة بناء قدراته العسكرية بعد الحرب الأخيرة، وإلى توجيه رسائل سياسية للداخل الإسرائيلي أيضًا.

فمع تزايد الانتقادات للحكومة في تل أبيب بسبب إخفاقاتها في غزة، تسعى المؤسسة العسكرية إلى إظهار الحزم والقوة على الجبهة الشمالية لتخفيف الضغط الداخلي.
إلا أن هذه الاستراتيجية تنطوي على مخاطرة عالية، إذ إن أي خطأ في التقدير قد يؤدي إلى تفجير شامل للحدود اللبنانية، خاصة أن المنطقة الجنوبية ما زالت تعاني من توتر مزمن منذ حرب 2006.

ويقول محللون إسرائيليون إن الجيش "يعتبر الساحة اللبنانية امتدادًا لمواجهة إيران"، وإنه يرى في "حزب الله" الذراع الأخطر ضمن شبكة الوكلاء التي تديرها طهران، لذلك يستهدف عناصر الحزب في كل فرصة متاحة، حتى أثناء سريان اتفاقات التهدئة.

الجنوب بين الحرب والسلام

منذ أكثر من عقدين، يعيش الجنوب اللبناني على إيقاع الهدوء القلق، فكل هدوء طويل يُقرأ كاستراحة قبل جولة جديدة من التصعيد.
وتُعد بلدة كونين إحدى القرى التي دفعت ثمن موقعها الجغرافي القريب من الحدود، حيث شهدت عشرات الغارات خلال السنوات الماضية، وتضررت بنيتها التحتية بشدة خلال حرب 2006 وما تلاها من مواجهات متقطعة.

لكن الوضع اليوم يختلف جذريًا عن تلك المرحلة؛ إذ باتت المعادلات الإقليمية أكثر تعقيدًا:

وجود قوات إيرانية وسورية في الميدان الجنوبي السوري؛

وتوتر دائم على جبهة البحر الأحمر؛

وتراجع الدور الأمريكي في ضبط التوازنات؛

مقابل دور روسي متزايد في مراقبة التهدئة عبر قنوات اتصال أمنية مع بيروت وتل أبيب.

كل ذلك يجعل من الجنوب اللبناني مرآةً للتغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، لا مجرد ساحة تماس محلية.

قراءة استراتيجية

وفق تقديرات مراكز أبحاث لبنانية، فإن الغارة على كونين ليست مجرد "حادث تكتيكي"، بل إشارة إلى رغبة إسرائيلية في إعادة ضبط ميزان الردع بعد سلسلة من الهجمات التي تعرضت لها مواقعها في الجليل في الأسابيع الأخيرة.
كما أن تل أبيب تحاول اختبار مدى التزام "حزب الله" بوقف إطلاق النار، ومدى استعداد الجيش اللبناني للتدخل في حال تجدد التصعيد.

أما على المستوى الدولي، فإن الأمم المتحدة تبدو عاجزة عن فرض تطبيق القرار 1701 في ظل انقسام مجلس الأمن، وتراجع تمويل قوات "اليونيفيل".
وهو ما يمنح إسرائيل مساحة واسعة للتحرك دون رادع فعلي، بينما يجد لبنان نفسه بين خيارين كلاهما صعب:
إما السكوت على الانتهاكات الإسرائيلية لتفادي التصعيد، أو الرد العسكري الذي قد يعيد البلاد إلى أجواء حرب لا يحتملها الداخل المنهك.

جنوب لبنان.. خط النار الدائم

الغارة على بلدة كونين ليست حادثًا معزولًا، بل فصل جديد في حرب باردة ساخنة تدور على حدود لبنان الجنوبية.
فإسرائيل، التي تواصل انتهاك السيادة اللبنانية بذريعة "الأمن الوقائي"، تدفع المنطقة تدريجيًا نحو حافة انفجار جديد، بينما يقف لبنان أمام معادلة معقدة: كيف يحمي سيادته دون أن يشعل حربًا؟

وفي ظل استمرار الخروقات، وتراجع الثقة بالضمانات الدولية، يبدو الجنوب اللبناني مقبلًا على مرحلة حرجة عنوانها: الهدوء الهش الذي يسبق العاصفة.

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 9