تشهد الساحة الإسرائيلية في الأشهر الأخيرة حالة غير مسبوقة من القلق الاستراتيجي، بعد أن بدأت أصوات داخلية تتحدث بصراحة عن "تطويق إقليمي" محتمل تشكله ثلاث قوى رئيسية في الشرق الأوسط: إيران، تركيا، ومصر.
ففي تقرير نشره موقع News1 الإسرائيلي، حذر محللون عسكريون واستراتيجيون من "تصاعد التهديدات المتزامنة" من هذه الدول الثلاث، مشيرين إلى أن المؤسسة العسكرية في إسرائيل تعاني من أزمة ثقة وانهيار تنظيمي عقب هجوم 7 أكتوبر 2023، الذي مثّل أكبر فشل استخباراتي في تاريخ الدولة العبرية.
التقرير، الذي تداوله الإعلام العبري على نطاق واسع، لم يكتف بتوصيف التهديدات، بل كشف أيضًا عن نقاشات حادة داخل المؤسسة الأمنية حول طبيعة الإصلاح المطلوب، وكيفية التعامل مع واقع إقليمي يتغيّر بسرعة لمصلحة خصوم تل أبيب.
اهتزاز العقيدة الأمنية الإسرائيلية
منذ قيام إسرائيل، استندت استراتيجيتها الأمنية إلى مبدأ التفوق النوعي في السلاح والاستخبارات، والضربات الوقائية التي تمنع أي تحالف عربي أو إقليمي من تشكيل خطر وجودي.
لكن هجوم 7 أكتوبر، وما تبعه من إخفاقات في غزة وجبهات الشمال، زعزع هذه العقيدة، وأظهر أن التهديدات لم تعد تأتي فقط من الميليشيات أو الفصائل، بل من دول إقليمية كبرى تعيد رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط.
اللواء احتياط أمتسياه حن، أحد كبار الخبراء السابقين في المخابرات العسكرية الإسرائيلية، قال في تصريح نقله الموقع العبري إن وزارة الدفاع "تعاني من ضعف مهني وإداري خطير"، مضيفًا أن المؤسسة الأمنية باتت تدار بـ"عقلية بيروقراطية عاجزة عن التنبؤ بالمخاطر المقبلة".
وفي السياق ذاته، حذر الخبير العسكري تسيفي فاينبرغر من تضخم التهديدات على الجبهة الجنوبية والغربية، قائلاً إن "إسرائيل لا تواجه اليوم تهديدًا من إيران وحدها، بل من محور إقليمي يمتد من أنقرة إلى القاهرة وطهران".
إيران.. التهديد النووي والتمدد عبر الوكلاء
تحتل إيران رأس قائمة التحديات الإسرائيلية منذ أكثر من عقدين، لكن التقرير الجديد يشير إلى أن "التهديد الإيراني انتقل من كونه بعيد المدى إلى مباشر وقريب".
ففي أبريل 2024، شنّت طهران هجومًا صاروخيًا مباشرًا على أهداف إسرائيلية، في سابقةٍ تاريخية أنهت عقودًا من "الحرب بالوكالة".
ويشير المحللون الإسرائيليون إلى أن إيران لم تكتف بتطوير برنامجها النووي والصاروخي، بل بنت شبكة نفوذ متكاملة تشمل:
حزب الله في لبنان، الذي يمتلك ترسانة تتجاوز 150 ألف صاروخ.
الميليشيات الشيعية في العراق، التي تضغط على المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة.
الحوثيين في اليمن، الذين استهدفوا البحر الأحمر مرارًا في الأشهر الأخيرة.
الوجود العسكري الإيراني في سوريا، الذي يقترب أكثر من الحدود مع الجولان المحتل.
هذه المعادلة جعلت إسرائيل في مواجهة "هلال ناري" يمتد من الخليج إلى المتوسط، وفق توصيف اللواء حن، الذي أكد أن أي مواجهة مقبلة مع إيران ستكون متعددة الجبهات وبعيدة عن أن تكون "معركة محدودة النطاق".
تركيا.. الطموح العثماني والعداء المتجدد
تحت قيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، تبنت تركيا سياسة خارجية أكثر استقلالًا وجرأة، خصوصًا تجاه إسرائيل.
فبعد سنوات من العلاقات الباردة، تحوّل الخطاب التركي إلى لهجة حادة خلال حرب غزة الأخيرة، حيث وصف أردوغان إسرائيل بأنها "دولة إرهاب"، وأوقف التعاون العسكري والأمني معها.
التقرير الإسرائيلي وصف تركيا بأنها "تهديد غير مباشر"، يعتمد على أدوات الدبلوماسية العدوانية والدعم الواسع للحركات الإسلامية التي تعتبرها تل أبيب عدوًا.
وتشير التحليلات إلى أن أنقرة تسعى لتوسيع حضورها العسكري في شرق المتوسط، وتشكيل محور يضم دولًا وحركات تتقاطع في معارضتها للنفوذ الإسرائيلي، وهو ما يُقلق تل أبيب في ضوء تراجع العلاقات بين أنقرة وواشنطن أيضًا.
ويضيف الخبير العسكري فاينبرغر أن "تركيا اليوم لا تهاجم إسرائيل عسكريًا، لكنها تبني بيئة سياسية وإعلامية معادية لها، قد تُترجم مستقبلًا إلى تحركات أكثر صدامية، خاصة إذا تغيرت التوازنات الإقليمية".
مصر.. الحليف البارد والقلق المتبادل
على الرغم من اتفاقية السلام الموقعة عام 1979، فإن العلاقة بين القاهرة وتل أبيب لم تخلُ من التوترات، خصوصًا في الملفات الأمنية في سيناء وقطاع غزة.
التقرير العبري أشار إلى أن "مصر تمثل التهديد الأكثر حساسية لإسرائيل، لأنها دولة كبرى تمتلك جيشًا نظاميًا قويًا وحدودًا طويلة مع إسرائيل".
وقال إن تل أبيب تتابع بقلق ما تعتبره "تصاعد النشاط العسكري المصري في سيناء"، فضلًا عن التقارب السياسي بين القاهرة وكلٍّ من روسيا والصين، وهو ما تعتبره المؤسسة الأمنية الإسرائيلية مؤشرًا على تغير في التوازن الاستراتيجي الإقليمي.
وأضاف التقرير أن بعض الأصوات داخل الجيش الإسرائيلي تدعو إلى تعزيز التحصينات على طول الحدود مع مصر، تحسبًا لأي "تحول غير متوقع" في الموقف المصري، خاصة مع تقارير استخباراتية إسرائيلية تتحدث عن محاولات تهريب أسلحة وطائرات مسيرة من سيناء إلى غزة عبر شبكات تهريب معقدة.
ورغم أن القاهرة ترفض علنًا هذه الاتهامات، فإن دوائر صنع القرار في إسرائيل ترى أن "مصر لم تعد الضامن الصامت لأمن الجنوب الإسرائيلي"، بل أصبحت طرفًا يعيد صياغة موقعه الإقليمي ضمن توازن جديد تميل كفته نحو الشرق.
هجوم 7 أكتوبر.. جرح لم يلتئم بعد
يرى خبراء الأمن الإسرائيليون أن كل هذا القلق المتصاعد يجد جذوره في "الزلزال الأمني" الذي أحدثه هجوم 7 أكتوبر 2023.
ففي تلك العملية، تمكنت فصائل المقاومة الفلسطينية من اختراق التحصينات الإسرائيلية في غلاف غزة، ما أدى إلى مقتل مئات الجنود والمستوطنين، وأسر العشرات، وسط انهيار كامل للجاهزية الميدانية.
أعقب ذلك موجة من النقد الذاتي داخل إسرائيل، شملت القيادات العسكرية والسياسية.
وقالت الدكتورة عدنا فشر، الباحثة في علم التنظيم، إن الجيش يعيش "شللًا هيكليًا" بسبب ثقافة الخوف والرقابة المفرطة، داعية إلى إصلاحات مؤسسية تسمح بالحوار الداخلي وتشجع الضباط على النقد البنّاء.
من جانبه، شدد البروفيسور إليشع هاس على ضرورة "توحيد الجبهة الداخلية"، محذرًا من أن الانقسام السياسي الحاد بين التيارات اليمينية والعلمانية يضعف قدرة إسرائيل على الصمود في الحروب الخارجية.
أما الدكتور موشيه برينت، فأثار جدلاً حين قال إن "إسرائيل ليست تابعة للولايات المتحدة"، في دعوة واضحة إلى تقليص الاعتماد على واشنطن في القرارات العسكرية المصيرية، خصوصًا بعد تزايد الفتور في العلاقات الثنائية على خلفية الانتقادات الأمريكية لأداء الجيش الإسرائيلي في غزة.
أزمة داخلية وتآكل الثقة
التقرير لم يكتفِ بتوصيف التهديدات الخارجية، بل أشار إلى أزمة عميقة داخل المؤسسة الإسرائيلية نفسها، حيث تتصارع القيم الليبرالية مع الاعتبارات الأمنية.
فالمحامي الإسرائيلي يوناتان بوتاخ دعا إلى منع صحيفة "هآرتس" من دخول المؤسسات العسكرية، وإلغاء "المدونة الأخلاقية" التي وضعها الفيلسوف أسا كيشير، لأنها ـ على حد وصفه ـ "تضعف الروح القتالية باسم القيم الإنسانية".
هذا النقاش يعكس انقسامًا خطيرًا بين من يرى أن إسرائيل يجب أن تحافظ على طابعها الديمقراطي حتى في الحرب، ومن يعتقد أن بقاءها يعتمد على التفوق الأمني غير المقيد بالقوانين الدولية أو المعايير الأخلاقية.
وفي الوقت ذاته، تواجه الحكومة انتقادات حادة بسبب فشلها في تقديم رؤية سياسية متماسكة، وسط احتجاجات شعبية متكررة تطالب باستقالة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وتحميله مسؤولية "أسوأ هزيمة أمنية في تاريخ إسرائيل".
إسرائيل في مرحلة ما بعد التفوق
تبدو إسرائيل اليوم، وفق الاعترافات الصادرة من داخلها، أقل ثقة وأكثر عزلة.
فبين تهديدات إيران الصاروخية، وتوجهات تركيا الطموحة، والتحركات المصرية المتزنة ولكن الحازمة، تجد تل أبيب نفسها محاصرة سياسيًا واستراتيجيًا.
ويجمع المحللون على أن الخطر الأكبر لا يكمن في الحرب المقبلة نفسها، بل في سؤال جوهري يطرحه الإسرائيليون الآن: هل الجيش الإسرائيلي جاهز حقًا للحرب القادمة؟
سؤال يتردد صداه في أروقة وزارة الدفاع وفي الشارع الإسرائيلي على السواء، ليعكس مرحلة جديدة في تاريخ إسرائيل، عنوانها الأبرز:
من دولةٍ تُخيف جيرانها.. إلى دولةٍ تخشى محيطها.