تشهد الساحة اللبنانية مرحلة جديدة من التصعيد السياسي والدبلوماسي، مع ازدياد الضغوط الأميركية وتكثيف العدوان الإسرائيلي على الجنوب. فبين جولات «المستشارة» الأميركية مورغان أورتاغوس وتحركات لجنة «الميكانيزم»، بدا واضحًا أن واشنطن تعيد رسم حدود تدخلها في الملف اللبناني وتضع الجيش في قلب المعادلة.
خلال زيارتها الأخيرة إلى بيروت، حملت أورتاغوس رسائل واضحة وحادة، إذ أكدت أن الجيش اللبناني لم ينفذ تعهداته بنزع سلاح حزب الله، وأن واشنطن لم تعد تقتنع بجدوى المبررات اللبنانية بشأن الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة. ووفق مصادر مطلعة، فقد شددت المسؤولة الأميركية على أن بلادها تنتظر من الجيش "القيام بدوره الكامل على كل الأراضي اللبنانية"، في إشارة إلى الجنوب حيث تتزايد الاشتباكات والخروقات.
وفي سياق متصل، ألغى المبعوث الأميركي توم برّاك زيارته المرتقبة إلى بيروت، معلنًا أنه "ليس هناك ما يناقشه حاليًا"، في موقف فُسّر على أنه رسالة توبيخ لبنانية تعكس خيبة واشنطن من أداء الحكومة. وبرّاك، الذي كان من المفترض أن ينسّق مع السفير الأميركي الجديد ميشال عيسى المنتظر وصوله قريبًا، أشار إلى أن بلاده لن تمارس أي ضغط على إسرائيل في المرحلة المقبلة، معتبرًا أن لبنان يتحمل المسؤولية الكاملة عن أي تصعيد.
أما في بيروت، فقد حاولت الأوساط الرسمية امتصاص الصدمة الأميركية عبر اقتراح توسيع عمل لجنة «الميكانيزم» لتصبح إطارًا للحوار التقني والعسكري فقط، من دون أن تتحول إلى قناة مفاوضات سياسية مباشرة مع إسرائيل. لكنّ هذا الطرح لم يلقَ ترحيبًا في واشنطن، التي تفضّل مفاوضات سياسية شاملة على غرار المسار السوري–الإسرائيلي، معتبرة أن المقاربة اللبنانية تمثل "مناورة لتأجيل الالتزامات".
مصادر لبنانية أوضحت أن الرئاسة أكدت تمسّكها بصيغة اللجنة كمنصة للحوار التقني، مع استعدادها لقبول الرعاية الأميركية المشروطة، شرط ألا يتجاوز التمثيل المستوى العسكري. إلا أن الرد الأميركي كان أكثر حزمًا، مذكّرًا رئيس الجمهورية بأن المادة 52 من الدستور تمنحه صلاحية التفاوض في الاتفاقيات الدولية، وبالتالي لا مبرر لتجنب التفاوض المباشر.
على الأرض، تستمر الاعتداءات الإسرائيلية اليومية. فقد توغلت قوة إسرائيلية من خمسة جنود في منطقة كفرشوبا، وأطلقت النار على آلية للجيش اللبناني من دون وقوع إصابات، فيما ألقى الطيران الإسرائيلي قنبلة صوتية قرب موقع للجيش في بلدة الضهيرة.
وفي موازاة التصعيد الميداني، عُقد اجتماع جديد للجنة تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار في رأس الناقورة، بحضور أورتاغوس والجنرال جوزيف كليرفيلد وقائد «اليونيفيل» ديواتو أبانيارا. وأكد البيان الختامي أن اللجنة ستعقد ثلاثة اجتماعات إضافية قبل نهاية العام لتفعيل آلية المراقبة الميدانية. وقد أثنت أورتاغوس على "احترافية الجيش اللبناني"، لكنها طالبت بتنفيذ خطته بالكامل، في تلميح إلى ضرورة بسط نفوذه على كامل الأراضي اللبنانية.
وبحسب مصادر متابعة، فإن الولايات المتحدة تعمل على تحويل لجنة الميكانيزم إلى منصة تفاوضية دائمة، تكون بديلًا عمليًا عن دور «اليونيفيل»، وتفتح الباب أمام قنوات اتصال مباشرة بين بيروت وتل أبيب. إلا أن ضباط الجيش اللبناني أبدوا تحفظهم، مؤكدين أن أي تطور من هذا النوع يحتاج إلى توافق سياسي داخلي.
مع ذلك، يقرأ المراقبون هذه التطورات على أنها بداية مرحلة ضغط أميركي منسّق مع إسرائيل، هدفها دفع لبنان إلى طاولة التفاوض بطريقة غير معلنة. وبين رسائل أورتاغوس وتحفظ برّاك، يبدو أن واشنطن تتجه لاعتماد سياسة العصا بلا جزرة، حيث تتراجع عن الوساطة التقليدية وتلوّح بالعزلة السياسية والاقتصادية إذا لم يستجب لبنان للمسار الذي ترسمه.
في المقابل، يحاول لبنان الموازنة بين الضغوط الخارجية والمخاطر الداخلية، في وقت يزداد فيه التوتر على الحدود، ويترقّب الجميع ما إذا كانت بيروت ستتمسك بالحياد أو تُجبَر على خيارات أكثر حدة في الأسابيع المقبلة.