لم تكن ليلة بلدة بليدا الجنوبية كباقي الليالي. فمع حلول منتصف الليل، دوّى صوت اقتحام جديد نفّذته قوة إسرائيلية داخل البلدة، في مشهدٍ أعاد إلى الأذهان مشاهد الاجتياحات القديمة التي عاشها الجنوب اللبناني لعقود.
ففي حوالي الساعة الواحدة والنصف فجرًا، توغلت وحدة عسكرية إسرائيلية داخل أراضي البلدة لمسافة تقارب الألف متر عن الخط الحدودي، مدعومة بآليات عسكرية ومدرعات خفيفة من نوع ATV، في خرق واضح للسيادة اللبنانية وللقواعد التي ترعى عمل قوات الأمم المتحدة في الجنوب.
الاقتحام لم يكن مجرد استعراض ميداني، بل عملية موجهة بدقة. فقد اقتحمت القوة مبنى بلدية بليدا، حيث كان يبيت أحد موظفيها، إبراهيم سلامة، الذي قُتل على الفور برصاص الجنود الإسرائيليين داخل المبنى، في جريمة أثارت موجة غضب واستنكار واسعة.
الأهالي الذين استيقظوا على أصوات الصراخ والاستغاثة، أكدوا أن المشهد داخل المبنى كان صادمًا، إذ سُمع صوت إطلاق نار متقطع تبعته صرخات مكتومة، قبل أن يعمّ الصمت المكان. واستمر التوغل حتى قرابة الرابعة فجرًا، حين انسحبت القوة المهاجمة تاركة خلفها دماءً على جدران البلدية وصدمةً في قلوب الأهالي.
مع انسحاب القوة الإسرائيلية، دخل الجيش اللبناني إلى المكان برفقة عناصر من الدفاع المدني، الذين نقلوا جثمان إبراهيم سلامة إلى المستشفى وسط حالة من الحزن والغضب الشعبي.
وخلال ساعات الصباح الأولى، شهدت البلدة تحركًا احتجاجيًا واسعًا، إذ أقدم عشرات من أبناء بليدا على قطع الطرق الرئيسية تنديدًا بما وصفوه بـ“الاعتداء الغادر”، مطالبين الحكومة اللبنانية والمجتمع الدولي باتخاذ موقف حازم تجاه هذا التصعيد المتكرر.
وخلال التحرك، حاولت دورية تابعة لـقوات اليونيفيل المرور في البلدة، إلا أن المحتجين اعترضوا طريقها وأجبروها على التراجع، في رسالة احتجاج واضحة على ما اعتبروه “تقصيرًا أمميًا” في حماية القرى الحدودية من الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة.
التحقيقات اللبنانية الأولية تشير إلى أن العملية كانت “مخططة ومقصودة”، وأن استهداف الموظف إبراهيم سلامة لم يكن عشوائيًا، بل جاء ضمن محاولة لتوجيه رسالة ترهيب إلى أهالي البلدة، التي تُعرف بموقفها الوطني الرافض للاعتداءات.
في المقابل، التزمت الجهات الرسمية اللبنانية الصمت حتى اللحظة، مكتفية بتأكيد أن الجيش “يتابع الحادثة بالتنسيق مع قوات اليونيفيل”، في حين يطالب الأهالي بفتح تحقيق عاجل وتوثيق الانتهاك تمهيدًا لرفعه إلى مجلس الأمن الدولي.
الجنوب، الذي لم يتعافَ بعد من آثار الحروب السابقة، يجد نفسه اليوم أمام فصل جديد من العدوان الإسرائيلي المتكرر، حيث تختلط مشاعر الغضب بالحزن والخوف من مستقبلٍ مفتوح على احتمالات التصعيد.
وفي بليدا، تحوّل مبنى البلدية إلى رمزٍ جديد للفقدان والصمود، بينما تبقى دماء إبراهيم سلامة شاهدًا على جريمة جديدة في سجلٍ طويل من الانتهاكات التي لم تُحاسَب بعد.