في مشهد أثار جدلاً واسعًا داخل الأوساط العربية والسورية، ظهر المدوّن الإسرائيلي الشهير آفي غولد في قلب العاصمة السورية دمشق، مصوّرًا موقع إعدام الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين في ساحة المرجة، وهو المكان الذي شهد واحدة من أكثر لحظات الصراع العربي–الإسرائيلي رمزية على الإطلاق. الفيديو الذي نشره غولد على منصة "تيك توك" كشف عن قدرة غير مسبوقة لمواطن إسرائيلي على الدخول إلى العاصمة السورية، التي لا تزال رسميًا في حالة حرب مع إسرائيل.
كاميرا إسرائيلية في قلب دمشق
أظهر غولد في مقطع الفيديو نفسه وهو يقف في ساحة المرجة، مشيرًا إلى موقع إعدام كوهين عام 1965، متحدثًا بلغة عبرية واضحة عن "مكان بطولي في ذاكرة إسرائيل"، في إشارة إلى الجاسوس الذي تراه دمشق "خائنًا" وتعتبره تل أبيب "رمزًا قوميًا".
لاحقًا، نشر غولد سلسلة من المقاطع المصوّرة خلال تجواله في دمشق، حيث ظهر في أسواق المدينة القديمة، وتناول البوظة الدمشقية التي وصفها بأنها "ألذ من تلك التي يتناولها في إسرائيل". وفي مقطع آخر، خاطب متابعيه قائلاً:
> "لمن يريد أن يعرف كيف أصبحت دمشق الآن، فلينظر عبر الكاميرا"،
ثم فعّل الكاميرا الخلفية ليُظهر نفسه يسير وسط مجموعة من الزوار الأجانب، يُعتقد أن بعضهم من أبناء الجالية اليهودية السورية أو من حاملي جنسيات مزدوجة.
إيلي كوهين.. جاسوس غيّر مجرى حرب 1967
يُعتبر إيلي كوهين واحدًا من أشهر جواسيس إسرائيل في التاريخ الحديث. وُلد في الإسكندرية عام 1924 لعائلة يهودية من أصول سورية. انضم إلى منظمة "الشباب اليهودي الصهيوني" في الأربعينيات، قبل أن يتم تجنيده لاحقًا من قبل الموساد الإسرائيلي.
في بداية الستينيات، أرسلته الاستخبارات الإسرائيلية إلى الأرجنتين ليبني هوية جديدة باسم كامل أمين ثابت، كرجل أعمال سوري ثري يرغب في العودة إلى وطنه الأم. في عام 1962، وصل كوهين إلى دمشق، وتمكن خلال فترة قصيرة من التغلغل في أوساط السلطة والجيش السوري، حتى أصبح مقرّبًا من كبار القادة العسكريين.
كشفت التقارير الإسرائيلية لاحقًا أن المعلومات التي نقلها كوهين عن التحصينات السورية في مرتفعات الجولان ساعدت إسرائيل بشكل حاسم خلال حرب الأيام الستة عام 1967.
وفي 18 مايو 1965، تم إلقاء القبض عليه بعد أن رصدت المخابرات السورية إشارات لاسلكية مشفّرة مصدرها منزله في حي أبو رمانة. حوكم كوهين علنًا وأُعدم شنقًا في ساحة المرجة أمام الجماهير، وبُثّ تنفيذ الحكم على الهواء في مشهد صارخ يعكس طبيعة الحرب الباردة بين البلدين آنذاك.
منذ ذلك الحين، رفضت الحكومات السورية المتعاقبة تسليم رفاته، رغم مطالبات إسرائيلية متكررة عبر وسطاء دوليين، ولا تزال تل أبيب تعتبر استعادة الرفات "قضية قومية مفتوحة".
زيارة سياحية أم رسالة استخباراتية؟
تثير زيارة المدون الإسرائيلي أسئلة عديدة حول آلية دخوله إلى الأراضي السورية، خاصة أن دمشق تحظر رسميًا دخول حاملي الجواز الإسرائيلي.
لكن وفق تقارير متقاطعة، فإن غولد – وهو من أصول يهودية سورية – استفاد من جنسية أجنبية ثانية (على الأرجح أوروبية أو أمريكية) تتيح له الدخول تحت غطاء "زيارة تراثية"، كما يُسمح أحيانًا لأبناء الجالية اليهودية من أصول سورية بزيارة المعابد القديمة أو المقابر العائلية ضمن ترتيبات محددة.
مع ذلك، يرى محللون أن ظهور مواطن إسرائيلي في قلب دمشق بهذا الشكل العلني يحمل أبعادًا رمزية تتجاوز السياحة. فالتوقيت يأتي في ظل تصاعد الحديث عن اختراقات استخباراتية إسرائيلية في المنطقة، ومحاولات تل أبيب توسيع حضورها الإعلامي عبر “دبلوماسية ناعمة” تستخدم الإنترنت والسوشيال ميديا لاختراق المجتمعات العربية.
من كوهين إلى غولد
بالنسبة لكثير من المراقبين، فإن ظهور غولد في موقع إعدام كوهين ليس مصادفة، بل يحمل إشارة إسرائيلية رمزية إلى "عودة الجاسوس الذي لم يمت في الذاكرة".
فإسرائيل طالما اعتبرت كوهين "شهيدًا قوميًا" وأطلقت اسمه على شوارع وسفن ومدارس. وبالتالي، فإن زيارة غولد قد تُقرأ كنوع من "الاسترداد الرمزي" للمكان، في ظل غياب أي تواصل دبلوماسي رسمي بين البلدين.
وفي المقابل، يرى محللون سوريون أن السماح بمثل هذه الزيارات – إن تم بطرق التفافية – يُعد اختراقًا يجب التعامل معه بحذر شديد، خاصة في مرحلة تتزايد فيها المؤشرات على نشاط استخباراتي إسرائيلي متنامٍ في دول الجوار، من لبنان إلى العراق وسوريا.
سوريا وإسرائيل... ستة عقود من العداء المفتوح
منذ قيام إسرائيل عام 1948، خاض البلدان ثلاث حروب مباشرة (1948، 1967، 1973)، وما زال الجولان السوري المحتل يمثل جرحًا مفتوحًا في العلاقات بين الطرفين.
ورغم دخول سوريا منذ عام 2011 في حرب داخلية معقدة، لم تسقط رسميًا حالة الحرب مع إسرائيل. بل إن الطيران الإسرائيلي نفّذ مئات الغارات داخل الأراضي السورية خلال العقد الماضي، مستهدفًا مواقع تقول تل أبيب إنها تابعة لـ"إيران وحزب الله".
ورغم ذلك، تظهر بين الحين والآخر مؤشرات لتواصل غير مباشر عبر وسطاء، خصوصًا فيما يتعلق بملف الجنود المفقودين والرفات، ومنها قضية إيلي كوهين التي لا تزال حاضرة بقوة في الذاكرة الإسرائيلية.
بين الذاكرة والاستخبارات
زيارة آفي غولد إلى دمشق ليست مجرد جولة عابرة أو "فيديو تيك توك" عادي، بل تعيد فتح أحد أكثر الملفات حساسية في التاريخ العربي–الإسرائيلي:
ملف الجاسوسية والاختراق، والذاكرة، والسيادة الوطنية.
فمن ساحة المرجة التي شهدت إعدام الجاسوس إيلي كوهين قبل ستين عامًا، يقف اليوم مدوّن إسرائيلي مبتسمًا في المكان نفسه، ليوجه رسالة رمزية مزدوجة: أن الحرب لم تنتهِ، لكنها تغيّرت أدواتها، من أجهزة اللاسلكي إلى كاميرات الهواتف الذكية.