بين برهان وحميدتي.. الفاشر ترسم حدود السودان الجديد

2025.10.28 - 09:18
Facebook Share
طباعة

منذ عشرة أشهر تعيش مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، واحدة من أحلك فصول الحرب السودانية، بعدما أحكمت ميليشيا الدعم السريع حصارها عليها في مايو 2024، مانعة دخول الغذاء والدواء، لتتحول المدينة إلى سجن مفتوح يقطنه الجوع والخوف.
الآن، ومع إعلان الميليشيا السيطرة على مقر قيادة الجيش داخل المدينة، يبدو أن دارفور تقترب من السقوط الكامل في يد "الدعم السريع"، في تطورٍ يرسم ملامح خريطة جديدة للسودان الممزق، وسط تحذيرات أممية من "مذابح عرقية وشيكة".

 

دارفور بين الانهيار العسكري والانقسام الجغرافي

الفاشر… آخر قلاع الجيش في الغرب

الفاشر، التي لطالما اعتُبرت "عقدة دارفور"، تمثل اليوم الموقع الاستراتيجي الأهم في الإقليم. فهي ليست فقط آخر مدينة خارج سيطرة الدعم السريع، بل نقطة الاتصال الوحيدة بين الجيش والمجتمعات المحلية الموالية له في شمال وغرب البلاد.
سقوطها يعني أن دارفور — بمساحتها الشاسعة التي تعادل نصف مساحة مصر، وثرواتها من البترول واليورانيوم والثروة الحيوانية — أصبحت عمليًا كيانًا منفصلًا يخضع لحكم الميليشيا.

وقد حذّر مراقبون من أن هذا التطور يشكل مقدمة لـ"تقسيم فعلي" للسودان، يعيد إلى الأذهان سيناريو ليبيا بعد 2014، حيث تبلورت سلطتان متنافستان على طرفي البلاد.

 


جرائم حرب وتطهير عرقي

بعد اقتحام مقر قيادة الجيش في الفاشر، بدأت تقارير ميدانية وأممية تتحدث عن إعدامات ميدانية واسعة ضد المدنيين، واستهداف ممنهج لقبائل بعينها.
وأفاد شهود عيان أن مقاتلي الدعم السريع نفذوا عمليات قتل انتقامية بحق المدنيين والجنود الأسرى، فيما انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة تُظهر الانتهاكات في الأحياء الجنوبية والغربية من المدينة.

الأمم المتحدة أكدت أن 38% من الأطفال النازحين يعانون من سوء تغذية حاد، وأن الوضع الإنساني "كارثي وغير قابل للاستمرار"، بينما لا تزال الميليشيا تمنع وصول أي مساعدات إنسانية.
ووفق المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، فإن الوضع في الفاشر "شديد الخطورة"، وسط مخاوف من أن تتحول المدينة إلى مسرح لجرائم إبادة جماعية جديدة تشبه ما حدث لقبيلة المساليت في مدينة الجنينة عام 2023.

 

صمت دولي ومواقف مترددة

ورغم تصاعد العنف، فإن المجتمع الدولي يبدو عاجزًا أو غير راغب في التدخل الفعلي. فقد اكتفى مجلس الأمن بإدانة "الفظائع"، فيما لم تُفعّل أي آلية للمحاسبة أو لحماية المدنيين.
أما الولايات المتحدة، فعبر مستشارها للشئون العربية والأفريقية مسعد بولس، فقد أعربت عن "قلقها البالغ"، مؤكدًا أن "التطور في الفاشر استراتيجي وخطير، وقد يقود إلى تقسيم السودان".
لكن الموقف الأمريكي، رغم شدته اللفظية، لا يزال يتمسك بما تُعرف بـ"خطة الرباعية" (واشنطن – الرياض – أبوظبي – لندن)، التي تطرح هدنة إنسانية لثلاثة أشهر يعقبها انتقال سياسي تدريجي، وهي خطة يرى كثير من السودانيين أنها منفصلة عن الواقع الميداني، خاصة بعد انهيار آخر خطوط الجيش في الغرب.

 


البرهان في خطاب تعبوي: "سنقتص لأهل الفاشر"

في المقابل، خرج رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بخطاب متلفز وصف فيه ما جرى في الفاشر بأنه "تدمير ممنهج وقتل ممنهج للمدنيين"، مؤكدًا أن الجيش سيعيد "كل أرض دنّسها المرتزقة إلى حضن الوطن".
البرهان حاول توجيه رسائل تعبئة معنوية للسودانيين، قائلاً: "نحن كشعب سوداني سنحاسب هؤلاء المجرمين، وسنقتص لأهلنا الذين لحق بهم الظلم."
لكن محللين رأوا أن الخطاب يعكس اعترافًا ضمنيًا بانسحاب الجيش من الفاشر، في محاولة لاحتواء الغضب الشعبي وتبرير الخسارة الميدانية.

 


دارفور بوابة التقسيم السوداني

يشير محللون إلى أن التحول في ميزان القوى داخل دارفور يعيد رسم خريطة الحرب السودانية بالكامل.
فـ"الدعم السريع" لم يعد مجرد ميليشيا منشقة، بل بات يسيطر على إقليم غني بالثروات، متصل بطرق إمداد مع ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، وهو ما يمنحه قدرة اقتصادية وعسكرية مستقلة.
وفي المقابل، يواجه الجيش السوداني عزلة جغرافية متزايدة، بعد فقدانه مواقعه في الغرب واحتدام المعارك في ولايات كردفان والنيل الأبيض.

ويخشى سياسيون أن يؤدي هذا الواقع إلى تبلور كيانين متوازيين:

الأول في الشرق والشمال، خاضع لمجلس السيادة والجيش.

والثاني في الغرب والوسط، تحت سيطرة الدعم السريع، بغطاء قبلي وتحالفات محلية.


هذا السيناريو يهدد بإنهاء السودان كدولة موحدة، ويحوّله إلى فسيفساء من الدويلات المسلحة تتنازع السيطرة على الموارد والمنافذ الحدودية.

 

الانعكاسات الإقليمية: حدود مشتعلة ومخاوف من تمدد الفوضى

امتداد المعارك إلى دارفور لا يهدد السودان وحده، بل يفتح الباب أمام انفلات أمني على حدود ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى.
وتشير تقارير أمنية إلى أن مئات المقاتلين الأجانب — بينهم مرتزقة من دول الساحل — شاركوا في معارك الفاشر، وهو ما يعزز خشية دول الجوار من تحول دارفور إلى "سوق مفتوح للسلاح والمقاتلين".
في المقابل، تحاول مصر والجزائر وليبيا ضبط الموقف خشية أن تمتد الفوضى شمالًا عبر الصحراء.


الفاشر… مرآة لمأساة السودان

ما يحدث في الفاشر ليس مجرد معركة على مدينة، بل نقطة تحوّل في مسار السودان الحديث.
فبقدر ما تكشف المأساة عن عجز الدولة وتشرذم الجيش، فإنها تُظهر أيضًا فشل المجتمع الدولي في حماية المدنيين ومنع انزلاق البلاد إلى التقسيم الكامل.
الفاشر اليوم تختصر المأساة السودانية:
مدينة تحاصرها الجوعى، تحكمها الميليشيات، ويتفرج عليها العالم من بعيد.
 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 8