في الوقت الذي تتحدث فيه التقارير الرسمية عن انخفاضٍ نسبي في عدد حرائق الغابات هذا العام، عادت النيران لتذكر اللبنانيين بأن الخطر ما زال قائماً، فقد اندلعت حريقٌ واسع في أحراج بلدة بشللي الجبيلية، امتد بسرعة نتيجة الرياح الشرقية والجفاف الذي يلف المنطقة منذ أيام.
الحدث أعاد تسليط الضوء على واقع إدارة الغابات في لبنان، وعلى الجهود المستمرة التي تبذلها الجهات الرسمية والمنظمات الدولية للحد من الحرائق وحماية الغطاء الحرجي.
الغابات اللبنانية إرث بيئي تحت الضغط:
تشير بيانات وزارة البيئة اللبنانية إلى أن أكثر من 35% من الغطاء الحرجي تراجع خلال العقدين الماضيين.
الحرائق لم تعد مجرد ظاهرة طبيعية، بل أصبحت في كثير من الأحيان نتيجة عوامل بشرية مباشرة مثل حرق النفايات الزراعية أو رمي أعقاب السجائر.
أهالي بشللي الذين سهروا حتى الفجر لمساعدة فرق الدفاع المدني في إخماد الحريق الذي اندلع قرب أحد الطرق الزراعية، ما يرجح أن السبب يعود إلى إهمال فردي أو نشاط بشري غير مقصود.
عام 2025.. خطوات تنظيمية ومشاريع دعم
وفق تقرير صادر عن الأمم المتحدة وبرنامج الأمم المتحدة للمشاريع (UNOPS) في مايو 2025، أُطلق مشروع وطني لدعم وزارة البيئة في تقليص مخاطر حرائق الغابات عبر إنشاء مراكز تنسيق محلية وتزويد فرق الإطفاء بمعدات مراقبة حديثة.
وفي يوليو 2025، أُعلن عن مشروع جديد بقيمة 3.5 مليون دولار لتحسين أنظمة الإنذار المبكر وتدريب البلديات على الاستجابة السريعة.
هذه المشاريع تأتي ضمن خطة أوسع تشمل تطوير خرائط للمناطق المعرضة للحريق، وتعزيز التنسيق بين الوزارات والبلديات.
قراءة في الأرقام والمؤشرات:
تشير بيانات المراقبة الجوية لعام 2025 إلى تسجيل انخفاض في عدد الإنذارات الحرارية مقارنة بالعام السابق.
ويرى خبراء بيئيون أن هذا التراجع قد يعود إلى تحسّن في آليات المراقبة والوقاية، إضافة إلى عوامل مناخية مؤقتة ساهمت في تقليل عدد الحرائق.
لكنّهم يؤكدون في الوقت نفسه على ضرورة الاستمرار في تطوير أنظمة الإنذار المبكر ودعم فرق الدفاع المدني بالمعدات الكافية، لضمان استجابة أسرع في الحالات الطارئة.
القانون والوعي المجتمعي:
رغم وجود قانون حماية الغابات الصادر عام 2017، إلا أن تطبيقه ما زال بحاجة إلى تعزيز على مستوى المراقبة والردع.
الجهات الرسمية تعمل حاليًا على إعداد تعديلات تشريعية لتشديد العقوبات على مسبّبي الحرائق وتحسين إجراءات التحقيق الميداني.
في المقابل، تبذل البلديات والجمعيات البيئية جهودًا لرفع الوعي حول سلوكيات الوقاية، خصوصًا في المناطق الزراعية والجبلية التي تشهد نشاطًا بشريًا مكثفًا خلال موسم الصيف.
المناخ كعامل مؤثر:
يؤكد تقرير البيان البيئي الوطني لعام 2025 أن لبنان يعيش اليوم في منطقة مناخية تشهد ارتفاعًا تدريجيًا في درجات الحرارة، ما يؤدي إلى مواسم أطول وأكثر جفافًا.
الخبراء يشيرون إلى أن ارتفاع متوسط الحرارة بدرجتين مئويتين خلال العقد المقبل قد يزيد من قابلية الغابات للاشتعال، ما يستدعي سياسات تكيف طويلة المدى تشمل إعادة التشجير، وتنظيم الرعي، ومراقبة الأنشطة البشرية في الأحراج.
التعاون بين الدولة والمجتمع:
تتجه الجهود الحالية نحو توسيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص في مجال إدارة الغابات.
فقد بدأت وزارة البيئة، بالتعاون مع جامعات ومراكز بحثية، في إنشاء قواعد بيانات مفتوحة حول المناطق الأكثر عرضة للحرائق، بما يساعد على التخطيط الوقائي بدقة أكبر.
كما يجري العمل على برامج تدريب ميداني لفرق المتطوعين، وتطوير تقنيات تعتمد على الطائرات المسيّرة لمراقبة المساحات الوعرة.
حريق بشللي الجبيلية شكّل تذكيرًا بأهمية الاستمرار في تعزيز الجهود الوقائية وتفعيل التعاون بين مختلف الجهات المعنية.
ورغم التحديات البيئية والمناخية، إلا أن الخطوات التي اتُّخذت خلال عام 2025 تشير إلى توجهٍ جدي نحو بناء منظومة استجابة أكثر فاعلية واستدامة.
حماية الغابات لم تعد مسؤولية الدولة وحدها، بل مسؤولية جماعية تتقاطع فيها أدوار المواطن والبلديات والمؤسسات الرسمية، من أجل الحفاظ على الإرث الطبيعي الذي يشكّل أحد أهم مكوّنات الهوية اللبنانية.