تظل الحدود بين لبنان وسوريا من أكثر الملفات تعقيدًا وحساسية في العلاقات الثنائية بين البلدين، إذ تخفي أكثر من قرن من النزاعات والتفاوض الهش ومحاولات الترسيم المؤجلة، ما يجعلها مرآة لعلاقات بيروت ودمشق المعقدة والمتجذرة تاريخيًا.
يبلغ طول الحدود نحو 375 كيلومترًا وتمتد بين الشمال والشرق اللبنانيين، وقد استمدّت شرعيتها في البداية من قرار الجنرال الفرنسي هنري غورو رقم 318 الصادر عام 1920 خلال الانتداب الفرنسي، الذي أسس لدولة لبنان الكبير وحدد حدودها اعتمادًا على التقسيمات الإدارية العثمانية وخطوط طبيعية مثل الأنهار والقمم الجبلية. ومع ذلك، فإن الخرائط التي اعتمد عليها القرار لم تكن دقيقة ميدانيًا، ما أدى منذ البداية إلى تداخل القرى والأراضي وخلق إشكالية مستمرة في الترسيم.
أصول النزاع والخرائط الاستطلاعية
قبل إعلان دولة لبنان الكبير، لم تكن هناك خرائط رسمية دقيقة، بل مجموعة من المسوحات الأولية لأغراض عسكرية واستطلاعية، أبرزها خرائط الحملة الفرنسية عام 1860، إلى جانب خرائط إنجليزية وألمانية وعثمانية متفرقة. وكانت هذه الخرائط تقريبية وتعاني من أخطاء في أسماء القرى ومواقعها، لكنها شكلت الأساس الذي بُني عليه القرار 318، ما مهد لسلسلة الخلافات عند محاولة تطبيق الحدود على أرض الواقع.
إعلان غورو في 31 أغسطس 1920 عن قيام لبنان الكبير أطلق موجة اعتراضات في دمشق وحمص وحماة، إذ اعتبر السوريون أن القرار محاولة فرنسية لفصل الساحل وجبل لبنان عن محيطهما الطبيعي، فيما سعى لبنان الجديد لتثبيت كيانه وحدوده الجديدة.
اللجان الفرنسية الأولى ومحاولات الترسيم
بين عامي 1921 و1924، تشكلت لجان رسمية فرنسية لبنانية لمطابقة الخرائط مع الواقع الميداني، لكن الخلافات كانت حادة حول ملكية الأراضي ومرجعية النهر الكبير في شمال لبنان، مع تداخل أراضٍ زراعية بين عائلات لبنانية وسورية.
وفي عام 1925، صدر القرار 3007 لإعادة النظر في خطوط الشمال والشرق، لكنه لم يحل الإشكاليات تمامًا، بل كرّس الضم النهائي لبعض القرى اللبنانية، ما زاد الشعور بالظلم في دمشق. بين 1927 و1930، أدت عراقيل المسّاحين والصعوبات التقنية والسياسية إلى تعطيل الترسيم، ما أبقى القرى الحدودية عالقة بين سلطتين إداريتين.
المطالب الشعبية وتصاعد النزاع
بين 1932 و1934، أصبح النزاع الحدودي قضية شعبية، واندلعت حوادث دموية في القرى الحدودية، ما دفع السلطات الفرنسية لتسريع تثبيت النقاط الحدودية. وفي 1935، أُعيد رسم خط الحدود في مناطق الشمال والشرق وفق التضاريس الطبيعية، إلا أن الخط لم يتطابق مع الحدود العقارية، ما أدى إلى استمرار النزاعات على الأرض.
حتى نهاية الثلاثينيات، ظلّت القرارات حبراً على ورق، مع استمرار التوترات بين سكان القرى، ومراسلات متواصلة بين بيروت ودمشق دون الوصول إلى حل دائم، قبل أن توقف الحرب العالمية الثانية أعمال لجنة التحكيم الفرنسية-اللبنانية.
ما بعد الاستقلال ومحاولات الترسيم
إعلان استقلال لبنان عام 1943 لم يحل المشكلة، إذ وافقت سوريا على ميثاق الإسكندرية للاعتراف بسيادة لبنان، لكنها لم تتخذ إجراءات عملية لترسيم الحدود. خلال عقود ما بعد الاستقلال، شهدت المناطق الحدودية حوادث متكررة بين الأهالي اللبنانيين والسوريين، خصوصًا في شبعا ومزارعها وعرسال وقارة والنحلة، بسبب التداخل العقاري وعبور المواشي والمياه.
بين عامي 1963 و1970، تشكلت لجان فنية مشتركة لدراسة الخرائط وحل الخلافات، وتأسست الهيئة الدائمة للحدود عام 1970، لكنها لم تتمكن من متابعة أعمالها نتيجة اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وتدخل الجيش السوري في السياسة اللبنانية، ما أبقى مسألة الترسيم معلقة.
الترسيم اليوم والارتباط بالموقف الإسرائيلي
في العقود الأخيرة، أصبح ترسيم الحدود مرتبطًا بالموقف الإسرائيلي، خصوصًا مع مسألة مزارع شبعا المحتلة، التي ظلت ملفًا مزدوجًا يحول دون ترسيم الحدود بشكل كامل. وبعد انسحاب الجيش السوري من لبنان في 2005، حاولت الحكومة اللبنانية استئناف أعمال اللجنة المشتركة مع دمشق، لكن العقبات بقيت قائمة، من تداخل القرى والمعابر غير الشرعية إلى التعقيدات الدبلوماسية.
عقود من المماطلة والتأجيل جعلت الحدود اللبنانية-السورية عقدة مركّبة، تتداخل فيها أبعاد تاريخية وسياسية ودبلوماسية وأمنية واقتصادية، تبدأ منذ الانتداب الفرنسي وتصل إلى تحديات العصر الحديث. ومع سقوط نظام الأسد وصعود الحكومة الجديدة برئاسة أحمد الشرع، عاد ملف الحدود إلى الواجهة، مع محاولات لإعادة تشكيل لجنة مشتركة تحت إشراف دولي، تشمل خبراء خرائط من الأمم المتحدة وفرنسيين وأمريكيين وسعوديين، بهدف الترسيم النهائي للحدود البرية والبحرية.
ويبقى أن أي حل مستدام يتطلب حسم مسألة مزارع شبعا وتوافقًا سياسيًا بين بيروت ودمشق، وإشرافًا دوليًا لضمان تطبيق الترسيم بشكل متكامل، ما يجعل الحدود أكثر من مجرد خط على الخريطة، بل انعكاسًا لصراع على الهوية والسيادة والتاريخ المشترك.