بعد مرور عامين على اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تتجه الأنظار ليس فقط إلى حجم الدمار وعدد الضحايا، بل إلى الكلفة الأميركية الخفية لهذه الحرب الممتدة التي أعادت رسم خريطة الصراعات في الشرق الأوسط.
تقرير حديث صادر عن معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة بجامعة براون الأميركية، كشف عن حجم التمويل الذي أنفقته الولايات المتحدة منذ أكتوبر 2023 وحتى سبتمبر 2025 لدعم إسرائيل وعملياتها العسكرية في المنطقة، والذي تجاوز 30 مليار دولار، ما يسلّط الضوء على العبء المالي والسياسي الذي تتحمله واشنطن جراء تبنيها غير المشروط للحليف الإسرائيلي.
مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب:
وفق التقرير، أنفقت الولايات المتحدة ما بين 31.35 و33.77 مليار دولار على الحرب الإسرائيلية والصراعات المرتبطة بها، منها 21.7 مليار دولار كمساعدات عسكرية مباشرة لإسرائيل.
أما بقية المبلغ، والبالغ بين 9.65 و12.07 مليار دولار، فذهب إلى عمليات عسكرية نفذتها واشنطن في اليمن وإيران ومناطق أخرى في الشرق الأوسط، ضمن ما وصفته بالتصدي لتداعيات الحرب الإسرائيلية.
الدراسة تشير إلى أن هذه الأرقام لا تشمل صفقات الأسلحة الإضافية التي أُبرمت خلال العامين الأخيرين، والتي وُصفت بأنها "زيادة تاريخية" في المساعدات العسكرية الأميركية لتل أبيب.
تضخم غير مسبوق في المساعدات العسكرية:
يقول ويليام هارتونغ، الباحث المشارك في تقرير "تكاليف الحرب" وزميل الأبحاث الأول في معهد كوينسي، في مقابلة مع مجلة Newsweek، إن إسرائيل تتلقى في الظروف العادية نحو 3.8 مليارات دولار سنوياً بموجب اتفاقية موقعة في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما.
لكن مع اندلاع الحرب على غزة، ارتفعت المساعدات الأميركية إلى 17.9 مليار دولار في عامها الأول — وهو أعلى مستوى على الإطلاق — قبل أن تعود إلى المعدل السنوي المعتاد في العام الثاني.
ويفسر هارتونغ ذلك بأن جزءاً من التمويل المخصص للعام الأول جرى توزيعه على عدة سنوات، بحيث يُستخدم جزء منه لتغطية نفقات العام الثاني.
الحرب الأطول في تاريخ إسرائيل:
يُصنف الصراع الحالي كـ الأطول والأكثر دموية في تاريخ إسرائيل، إذ تمددت تداعياته إلى دول عدة، بينها لبنان والعراق واليمن، حيث انخرطت فصائل مسلحة لدعم حركة "حماس".
كما شهد العامان الماضيان ثلاث مواجهات مباشرة بين إسرائيل وإيران، كان آخرها في يونيو الماضي حين شنت الولايات المتحدة ضربات على مواقع نووية إيرانية ضمن ما وصفه الرئيس دونالد ترامب بـ"حرب الـ12 يوماً".
ورغم أن كلاً من إدارتي بايدن وترامب حافظتا على دعم ثابت لإسرائيل، إلا أن استطلاعات الرأي الأخيرة كشفت عن تحول ملحوظ في مواقف الأميركيين.
الرأي العام الأميركي يتغير:
بحسب استطلاع مشترك بين نيويورك تايمز وجامعة سيينا، انخفضت نسبة الأميركيين الذين يتعاطفون مع إسرائيل من 47% إلى 34%، مقابل ارتفاع نسبة التعاطف مع الفلسطينيين إلى 36%.
كما أبدت أغلبية طفيفة (51%) معارضتها لأي دعم اقتصادي أو عسكري إضافي لإسرائيل.
وتزامن ذلك مع احتجاجات واسعة داخل الولايات المتحدة وخارجها ضد ما وُصف بـ"جرائم الحرب الإسرائيلية" واستهداف المدنيين في غزة.
كلفة باهظة لتقنيات الحرب:
أشار تقرير "تكاليف الحرب" إلى أن واشنطن استخدمت في عملياتها بالمنطقة أسلحة ومعدات عالية الكلفة لاعتراض صواريخ تُعتبر "رخيصة الثمن نسبياً"، ما أدى إلى استنزاف كبير في مخزون البنتاغون.
فقد أطلقت القوات الأميركية مئات الذخائر من منصات باهظة، مثل طائرات F/A-18 هورنت التي تبلغ قيمة الواحدة منها 70 مليون دولار، وخسرت منها ثلاث طائرات خلال العمليات.
كما ساهمت الهجمات المتكررة على إيران وحلفائها في رفع كلفة العمليات الجوية والصاروخية إلى مستويات غير مسبوقة.
في ذات السياق، ورغم انشغال واشنطن بتعويض خسائرها في الشرق الأوسط، فإنها تواصل شحن الأسلحة إلى شركائها في جبهات أخرى، مثل أوكرانيا وتايوان، وهو ما يضع ضغطاً إضافياً على مخزونات الأسلحة الأميركية ويثير نقاشات داخل الكونغرس حول أولويات الإنفاق الدفاعي.
تكلفة الحرب... عبء سياسي واقتصادي:
تقول ليندا بيلمز، الباحثة في كلية كينيدي بجامعة هارفارد والمشاركة في إعداد تقرير "تكاليف الحرب"، إن الهدف من هذه الدراسة هو توعية الرأي العام الأميركي بحجم الإنفاق الحقيقي الذي تتحمله بلادهم في الصراعات الخارجية.
وتضيف :"للرأي العام الأميركي الحق في معرفة كيفية استخدام أموال الضرائب، والإقرار بأن الانخراط العسكري الأميركي في الشرق الأوسط يفرض تكاليف مالية باهظة."
وترى بيلمز أن الكلفة الحقيقية ستزداد بمرور الوقت مع تراكم متطلبات الاستبدال والصيانة، ما يعني أن العبء المالي للحرب "سيظل محورياً في النقاشات السياسية الأميركية خلال السنوات المقبلة".
بعد عامين من الحرب على غزة، لا تبدو الولايات المتحدة في موقع الرابح. فبينما تواصل إسرائيل حربها الأطول في التاريخ الحديث، تتحمل واشنطن فاتورة مالية ضخمة، وتراجعاً في شعبيتها الداخلية، وتآكلاً في صورتها الدولية كوسيط محايد.
الإنفاق العسكري الهائل لم يحقق استقراراً في المنطقة، بل كشف حدود القوة الأميركية أمام واقع سياسي متفجر، باتت فيه تكاليف الحرب تفوق مكاسبها بكثير.