في مثل هذا اليوم قبل عامين، دوّى صوت طوفان الأقصى من قلب غزة ليهزّ أركان المنطقة ويعيد رسم موازين القوى من جديد، لم تكن العملية مفاجأة عسكرية فحسب، بل زلزالًا سياسيًا مدروسًا، صاغته عقول هندسية وعسكرية فلسطينية راكمت الخبرة على مدى عقدين من الصراع، حتى جاءت اللحظة التي انكشفت فيها هشاشة التفوق الإسرائيلي أمام إرادة المقاومة.
في ساعات الفجر الأولى من 7 أكتوبر 2023، تساقطت الحواجز والأسوار التي ظن الاحتلال أنها منيعة، واخترقت مجموعات المقاومة الحدود في واحدة من أكثر العمليات العسكرية تعقيدًا وجرأة في تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
لم تكن تلك الضربة مجرد ردّ فعل على جرائم الاحتلال في الأقصى، بل إعلانًا استراتيجيًا عن مرحلة جديدة، انتقلت فيها المقاومة من موقع الدفاع إلى موقع الفعل والمبادرة والتأثير الإقليمي.
ومنذ ذلك اليوم، لم تهدأ المعركة، عامان من الدمار والحصار، ولكن أيضًا من الصمود الأسطوري الذي حوّل غزة الصغيرة المحاصرة إلى رمز عالمي للمقاومة والإصرار، ورغم مليارات الدولارات التي ضُخّت لدعم آلة الحرب الإسرائيلية، ورغم الغطاء السياسي الأمريكي اللامحدود، لم تنجح إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها المعلنة، بل على العكس، وجدت نفسها تغرق أكثر في المستنقع، وسط تراجع غير مسبوق في صورتها الدولية، وتزايد الضغوط الداخلية، بينما بقيت غزة – رغم كل الجراح – واقفة، تقاتل، وتفرض معادلاتها على الجميع.
اليوم، بعد عامين على الطوفان، يقف العالم أمام ذكرى لم تعد مجرد رقم في التقويم، بل لحظة مفصلية أثبتت أن ميزان القوة لا يُقاس بالسلاح فقط، بل بالعقيدة والإرادة والإيمان بعدالة القضية.
فجر 7 أكتوبر 2023 – عملية "طوفان الأقصى" التي غيّرت وجه الصراع
في فجر السابع من أكتوبر 2023، استيقظت المنطقة على مشهد غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي، لتعلن عن بداية عملية "طوفان الأقصى"، العملية التي لم تغيّر فقط المعادلة الميدانية، بل هزّت العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي بُنيت على فكرة الردع المطلق.
لم تكن الهجمة وليدة اللحظة، فقد سبقتها شهور من التخطيط الدقيق الذي شاركت فيه أذرع المقاومة العسكرية كافة، بقيادة كتائب القسام وبدعم لوجستي ومعنوي من الفصائل الأخرى في غرفة العمليات المشتركة، جرى العمل بسرّية تامة، وتحت أعين استخباراتية إسرائيلية وأمريكية لم تتمكن من التقاط أي إشارة مسبقة.
مع حلول السادسة والنصف صباحًا، اختراق عشرات الوحدات الخاصة للحدود الشرقية والشمالية لقطاع غزة، عبر الطائرات الشراعية، والدراجات النارية، والأنفاق، في هجوم متزامن من البر والجو والبحر.
الهدف لم يكن السيطرة على الأرض بقدر ما كان إحداث صدمة استراتيجية، تُظهر هشاشة الأمن الإسرائيلي وتعيد القضية الفلسطينية إلى مركز المشهد الدولي بعد سنوات من التجاهل، خلال ساعات، سقطت مواقع إسرائيلية كانت تُعتبر حصونًا منيعة، وتم أسر عشرات الجنود والضباط، في مشهد لم تعرفه إسرائيل منذ تأسيسها.
وبحسب تقديرات مراكز الأبحاث الغربية، فإن طوفان الأقصى مثّل أول اختراق شامل لمنظومة الأمن الإسرائيلية منذ عام 1948. لقد أظهرت العملية قدرة المقاومة على الجمع بين عنصر المفاجأة، والتخطيط المركزي، والتنفيذ اللامركزي، ما جعلها أقرب إلى "حرب عقول" أكثر منها مواجهة تقليدية.
ورغم الخسائر البشرية الكبيرة التي تكبدتها غزة لاحقًا بفعل العدوان الإسرائيلي الواسع، فإن الرسالة التي حملها الطوفان كانت واضحة: أن المعادلة القديمة انتهت، وأن زمن الاحتلال الآمن دون كلفة قد ولى، ومنذ ذلك اليوم، دخل الصراع مرحلة جديدة، لا يحكمها ميزان السلاح فقط، بل ميزان الإرادة والعقيدة.
الرد الإسرائيلي .. حملة "السيف الحديدي" وإعلان الحرب المفتوحة على غزة
بعد الصدمة الأولى التي أحدثتها عملية "طوفان الأقصى"، لم تتردد إسرائيل في الرد بأكبر حملة عسكرية في تاريخها الحديث، أطلقت عليها اسم "السيف الحديدي"، في محاولة لاستعادة هيبتها المفقودة وإعادة رسم معادلة الردع التي تهاوت خلال ساعات فجر السابع من أكتوبر.
منذ الساعات الأولى للرد، كانت المؤشرات واضحة لم تكن إسرائيل بصدد عملية عسكرية تقليدية، بل حرب انتقام شاملة تستهدف الإنسان والحجر، لتقول للعالم إنها قادرة على معاقبة غزة بقدر ما عجزت عن منع ضربتها الأولى.
انهالت آلاف الغارات الجوية على طول القطاع وعرضه، مستهدفة كل ما يمكن تدميره المنازل، المدارس، المساجد، المستشفيات، محطات الكهرباء والمياه، وحتى قوافل الإغاثة والملاجئ التي احتمى فيها المدنيون.
في الأيام الأولى وحدها، أُطلقت أكثر من 25 ألف قنبلة وصاروخ، بعضها يزن أطنانًا، لتغطي مساحة جغرافية صغيرة بالكثافة السكانية الأعلى في العالم.
كانت المشاهد من الجو أقرب إلى لوحة رماد، حيث تحولت أحياء كاملة كالشجاعية، والزيتون، ورفح، وخان يونس إلى ركام فوق ركام.
إسرائيل حاولت أن تُظهر أنها تستهدف البنية العسكرية لحركة "حماس"، لكنها في الواقع استهدفت البنية المجتمعية لغزة، ساعية لتفكيك الروح التي أنتجت المقاومة.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه حكومة الاحتلال أن هدفها "القضاء الكامل على حماس"، كانت تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية توثق واحدة من أوسع عمليات الإبادة الحديثة ضد المدنيين.
بحسب وزارة الصحة في غزة، تجاوز عدد الشهداء 67 ألفًا، فيما أصيب أكثر من 127 ألفًا، معظمهم من النساء والأطفال، ومع ذلك، لم تنكسر غزة، ففي كل شارع مهدّم، ووسط الركام، واصل السكان حياتهم بإصرار غريب على البقاء.
المخابز فتحت أبوابها رغم انقطاع الوقود، والأطباء واصلوا العمل في المستشفيات المدمرة، وأصوات الأذان لم تتوقف رغم تساقط القنابل.
أما على الجبهة الميدانية، فقد واجهت وحدات المقاومة الفلسطينية الهجوم البري الإسرائيلي بأساليب تكتيكية مبتكرة، الكمائن تحت الأرض، التفخيخ المسبق للمباني، ونشر وحدات صغيرة تتحرك بسرعة وتضرب بدقة.
خسرت القوات الإسرائيلية عشرات الجنود والآليات في محاور خان يونس والشمال، وأُجبرت على الانسحاب من عدة مناطق بعد معارك ضارية، وهو ما اعتبرته الصحافة العبرية "فشلًا تكتيكيًا مدويًا" للجيش الذي لطالما قدّم نفسه كأقوى جيوش المنطقة.
ورغم التغطية الإعلامية الغربية المنحازة، بدأت الأصوات الدولية ترتفع، عواصم أوروبية وأمريكية شهدت مظاهرات غير مسبوقة تندد بالمجازر في غزة، بينما بدأت المجتمعات الغربية نفسها تتساءل: هل ما تفعله إسرائيل دفاع عن النفس أم حرب إبادة؟
في مقابل هذا الدمار الهائل، بقيت غزة على قيد الصمود، أثبت أهلها أن القوة ليست في عدد الصواريخ أو الطائرات، بل في الإيمان بعدالة القضية، وأن "السيف الحديدي" الذي أرادته إسرائيل لعقاب المقاومة، تحوّل إلى رمز جديد لصمودها الأسطوري.
الامتداد الإقليمي للصراع .. جبهة الشمال و"حرب الإسناد" من لبنان واليمن
لم تكن عملية "طوفان الأقصى" مجرد مواجهة فلسطينية ـ إسرائيلية محدودة النطاق، بل تحولت سريعًا إلى زلزال إقليمي أعاد خلط الأوراق في كل خريطة الشرق الأوسط،
فمنذ اليوم الثاني للهجوم، تحركت جبهة الشمال في لبنان بقيادة حزب الله، معلنة أن المعركة في غزة ليست معركة فصيل، بل معركة محور كامل ضد المشروع الصهيوني.
في 8 أكتوبر 2023، أعلن السيد حسن نصر الله رسميًا بدء "حرب الإسناد لجبهة غزة"، ففتحت المقاومة اللبنانية الجبهة الشمالية بنيرانها، مستهدفة مواقع عسكرية إسرائيلية على طول الحدود من مزارع شبعا حتى الجليل الأعلى، لم يكن الهدف إسقاط إسرائيل، بل تشتيت جهدها العسكري وإجبارها على القتال في جبهتين في آن واحد.
ومع مرور الأسابيع، تطورت الاشتباكات من مناوشات حدودية إلى حرب محدودة واسعة النطاق، نفّذ حزب الله أكثر من 1800 هجوم صاروخي ومدفعي خلال العام الأول، استهدف قواعد تجسس، ومراكز قيادة، ورادارات متطورة.
وفي المقابل، ردت إسرائيل بقصف مركز على الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت، ما أدى إلى استشهاد المئات من المدنيين والمقاتلين، بينهم قادة بارزون في الحزب.
لكن التحول الأكبر وقع في صيف 2024، حين اغتالت إسرائيل حسن نصر الله في غارة معقّدة استهدفت ملجأ محصّن في الضاحية الجنوبية، وفق تقارير إسرائيلية ولبنانية متقاطعة.
الهجوم، الذي استُخدمت فيه طائرات شبح ومسيرات انتحارية، كان بمثابة رسالة إسرائيلية للعالم بأنها مستعدة لتوسيع الحرب خارج غزة مهما كلف الثمن، غير أن اغتيال نصر الله لم يُنهِ الجبهة، بل أشعلها أكثر.
تولى هاشم صفي الدين قيادة الحزب مؤقتًا، قبل أن يُغتال هو الآخر بعد أسابيع في غارة مماثلة، تبعتها عمليات تصفية لقادة الصف الأول، مثل علي كركي وفؤاد شكر.
ورغم الخسائر البشرية الثقيلة، بقيت جبهة لبنان صامدة، وأثبتت أن الردع الحقيقي لا يُقاس بعدد الصواريخ، بل بقدرة محور المقاومة على الاستمرار في القتال رغم كل الضربات.
في الجنوب، كانت غزة لا تزال تقاتل تحت النار، لكن المقاومة تلقت دعمًا عسكريًا ومعنويًا من جبهات أخرى.
من اليمن، دخلت حركة "أنصار الله" (الحوثيون) المعركة بطريقة غير تقليدية، معلنة في نهاية أكتوبر 2023 أن البحر الأحمر "لن يكون آمنًا للسفن المرتبطة بإسرائيل".
ومنذ ذلك الحين، بدأت الهجمات البحرية تتصاعد بوتيرة غير مسبوقة:
• استهداف ناقلات تجارية ترفع أعلامًا غربية في باب المندب والبحر الأحمر.
• هجمات بطائرات مسيّرة وصواريخ كروز على سفن يُعتقد أنها متجهة إلى الموانئ الإسرائيلية.
• عمليات تعطيل لحركة الملاحة في ممرات بحرية استراتيجية، مما تسبب في أزمة تجارية عالمية وارتفاع أسعار التأمين والنقل البحري.
•
ردت إسرائيل وحلفاؤها بسلسلة غارات دقيقة استهدفت مواقع في صنعاء وصعدة والحديدة، لكن ذلك لم يوقف عمليات الحوثيين، بل على العكس، اتسع نطاق الاشتباك ليشمل قواعد إسرائيلية في إريتريا وجيبوتي، ما أعاد للمنطقة طابع الحروب الإقليمية المفتوحة.
في هذا المشهد، أصبح واضحًا أن "طوفان الأقصى" لم يكن مجرد عملية عسكرية مفاجئة، بل نقطة التحول الكبرى في بنية الأمن الإقليمي، تحولت المقاومة الفلسطينية من فاعل محاصر إلى محرّك رئيسي لتوازنات الشرق الأوسط، ونجحت – عبر ما سُمّي بمحور القدس – في فرض معادلة جديدة: أي عدوان على غزة يعني انفجارًا في أكثر من جبهة.
وفي المقابل، وجدت إسرائيل نفسها تخوض حرب استنزاف طويلة لا تملك فيها نصرًا حاسمًا ولا مخرجًا سياسيًا، رغم الدعم الأمريكي غير المحدود.
الاغتيالات الكبرى – من صالح العاروري إلى يحيى السنوار: حرب الظلال الإسرائيلية ضد قادة المقاومة
منذ اللحظة الأولى لهجوم “طوفان الأقصى”، أدركت إسرائيل أن المعركة التي تواجهها ليست مجرد مواجهة ميدانية، بل حرب عقول وإرادة، الضربة التي نفذتها المقاومة فجر السابع من أكتوبر لم تكن عملاً عشوائيًا، بل عملية مخططة بإحكام على مدى سنوات، بإشراف جهاز أمني وعسكري متكامل داخل حركة “حماس” وعدد من الفصائل الحليفة،
ولهذا، قررت إسرائيل أن الرد لن يكون فقط في الميدان، بل عبر حرب اغتيالات واسعة النطاق تستهدف رأس الهرم القيادي الفلسطيني.
بداية الحرب الخفية – اغتيال صالح العاروري
في 2 يناير 2024، دوّى انفجار ضخم في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت
لم يكن انفجارًا عاديًا؛ فقد أعلنت إسرائيل بعد دقائق مسؤوليتها عن اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، بصاروخ أطلقته طائرة مسيّرة دقيقة الإصابة.
العاروري لم يكن مجرد قيادي، بل العقل التنظيمي الأبرز للتنسيق بين غزة والضفة ولبنان، وصاحب البصمة الواضحة في بناء بنية المقاومة خارج القطاع.
باغتياله، أرادت تل أبيب أن تبعث برسالة مزدوجة: أن يدها الطويلة قادرة على الوصول إلى أي مكان، وأنها تعتبر كل مكان في الإقليم ساحة حرب مفتوحة.
لكن النتيجة جاءت عكسية — إذ تحوّل العاروري إلى رمز موحِّد للمقاومة الفلسطينية، ودفعت عملية اغتياله إلى تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية.
استهداف القيادة المركزية في غزة – اغتيال محمد الضيف
في يوليو 2024، نفّذ الجيش الإسرائيلي واحدة من أكثر عملياته تعقيدًا في القطاع.
طائرات F-35 شنت غارة مركزة على منزل في خان يونس، لتعلن إسرائيل بعدها اغتيال القائد العام لكتائب القسام، محمد الضيف، أحد أكثر المطلوبين منذ عقدين.
كان الضيف مهندس العمليات العسكرية الكبرى للمقاومة، والمشرف العام على غرفة عمليات “طوفان الأقصى”، لكن رغم إعلان تل أبيب “النصر التكتيكي”، لم تتوقف هجمات المقاومة، بل ازدادت وتيرتها، خلف الضيف منظومة متماسكة من القادة الميدانيين الذين تابعوا المعركة بذات العقيدة القتالية، لتؤكد غزة أن الاغتيال لا يوقف الفكرة، ولا يطفئ نار المقاومة.
ضربة إلى العمق الإيراني – اغتيال إسماعيل هنية
وفي 31 يوليو 2024، فجّر الموساد الإسرائيلي مفاجأة كبرى عندما نفذ تفجيرًا داخل العاصمة الإيرانية طهران، استهدف مقر إقامة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، الذي كان يحضر اجتماعًا رفيع المستوى مع مسؤولين من “الحرس الثوري”.
العملية، التي وُصفت في الإعلام الإسرائيلي بأنها “أعمق اختراق أمني في تاريخ الموساد داخل إيران”، مثّلت تجاوزًا لكل الخطوط الحمراء، إذ نقلت الصراع من الساحة الفلسطينية إلى قلب الحلفاء الإقليميين.
إيران توعّدت بالرد، وبدأت بعدها بأسابيع مرحلة جديدة من الحرب المباشرة مع إسرائيل (حرب الـ12 يومًا في أبريل 2024)، التي أعادت تشكيل المشهد الإقليمي بأكمله.
نهاية القائد الميداني – اغتيال يحيى السنوار
في منتصف سبتمبر 2024، أعلنت إسرائيل تنفيذ عملية نوعية في خان يونس أسفرت عن مقتل يحيى السنوار، القائد العام لحركة حماس في غزة، وأحد مهندسي عملية “طوفان الأقصى”.
السنوار كان يُعتبر “الرمز الميداني لصلابة المقاومة”، وعُرف بقدرته على إدارة الحرب تحت الحصار الكامل، وبتحويل الأنفاق إلى بنية عسكرية متقدمة تشلّ حركة الجيش الإسرائيلي.
اغتياله لم يكن مجرد انتقام، بل محاولة إسرائيلية لكسر المعنويات في غزة، خصوصًا بعد فشل الاجتياح البري في تحقيق أهدافه.
لكن المقاومة، بقيادة محمد السنوار (شقيق يحيى) وكتائب أخرى، واصلت القتال بعقيدة جديدة: “دم الشهداء طريق النصر”.
وفي مايو 2025، اغتالت إسرائيل محمد السنوار نفسه، ظنًا منها أن سلسلة الاغتيالات ستفكك البنية القيادية للحركة.
لكنها فوجئت بأن شبكة القيادة الميدانية تعمل وفق نظام لا مركزي، يتيح استمرار القتال حتى في غياب كبار القادة.
حرب بلا نهاية – من تصفية القادة إلى حرب الوعي
مع مرور الوقت، تحولت حرب الاغتيالات إلى معركة وعي وإرادة.
إسرائيل كانت تراهن على أن قتل القادة سيضعف البنية المعنوية للمقاومة، بينما أثبتت الوقائع أن كل اغتيال كان يولّد عشرات القادة الجدد، أكثر جرأة وخبرة وتنظيماً.
أصبح اسم كل شهيد من القادة راية سياسية وميدانية ترفعها الأجيال الجديدة داخل غزة وخارجها.
وبينما كانت إسرائيل تغتال الأجساد، كانت المقاومة تبني الذاكرة والرمز، لتتحول “حرب الظلال” إلى هزيمة استخباراتية مزدوجة: فشلت في القضاء على الفكرة، وخسرت معركة الرأي العام العالمي التي انقلبت ضدها.
حرب الإقليم الكبرى – المواجهة الإيرانية الإسرائيلية (أبريل 2024)
مع اقتراب النصف الثاني من عام 2024، بدا أن الشرق الأوسط يسير نحو انفجار إقليمي شامل.
فالحرب في غزة استنزفت إسرائيل عسكريًا ونفسيًا، وحزب الله فتح جبهة الشمال، والحوثيون أغلقوا البحر الأحمر أمام السفن الإسرائيلية والغربية، بينما كانت إيران تراقب المشهد من بعيد – تتحيّن لحظة الرد الكبرى.
الشرارة جاءت في 1 أبريل 2024، حين شنت إسرائيل غارة دقيقة استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق، ما أسفر عن مقتل عدد من كبار قادة “الحرس الثوري الإيراني”، بينهم اللواء محمد رضا زاهدي، أحد أبرز العقول العسكرية الإيرانية في الملف السوري.
إيران اعتبرت الضربة اعتداءً مباشراً على سيادتها، وأعلنت أن الرد سيكون “قاسيًا ومباشرًا داخل إسرائيل”.
وبعد أقل من أسبوعين، وتحديدًا في 13 أبريل 2024، دوّت صفارات الإنذار في كل أنحاء إسرائيل، في ما وصفته وسائل الإعلام العالمية بأنه “أول هجوم إيراني شامل ومباشر على إسرائيل في التاريخ الحديث”.
اليوم الأول: وابل من الصواريخ والمسيرات
في تلك الليلة، أطلقت إيران أكثر من 320 صاروخًا باليستيًا ومجنّحًا، و170 طائرة مسيّرة من أراضيها، ومن قواعد حليفة في العراق واليمن وسوريا.
الأهداف كانت واضحة:
• مراكز قيادة عسكرية في تل أبيب.
• قواعد جوية في النقب.
• مواقع للرادارات وأنظمة الدفاع الجوي.
• موانئ بحرية تستخدمها إسرائيل في نقل الأسلحة القادمة من الولايات المتحدة.
لأول مرة منذ قيامها عام 1948، وجدت إسرائيل نفسها تحت هجوم من دولة ذات سيادة تمتلك ترسانة باليستية متطورة.
ورغم أن منظومة “القبة الحديدية” و”مقلاع داوود” و”آرو-3” اعترضت نسبة كبيرة من الصواريخ، إلا أن بعض الضربات أصابت أهدافًا استراتيجية في الجنوب والوسط، ما دفع حكومة الاحتلال إلى إعلان “الطوارئ الكاملة” في كل أنحاء البلاد.
اليوم الثالث: الرد الإسرائيلي العنيف
في فجر 19 أبريل 2024، ردت إسرائيل بغارات جوية مكثفة داخل العمق الإيراني.
طائرات F-35 وF-15 عبرت الأجواء العراقية والأذربيجانية، واستهدفت منشآت دفاعية وصاروخية في أصفهان، وطهران، وتبريز، إضافة إلى مواقع يشتبه بأنها لتخزين الطائرات المسيّرة.
كما شنت إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة هجمات إلكترونية متطورة عطّلت لفترة قصيرة أنظمة القيادة والتحكم الإيرانية، لكن المفاجأة الكبرى كانت أن إيران لم تنهَر تحت الضربات، بل ردت بعد ساعات بهجوم صاروخي جديد على قاعدة نفاتيم الجوية الإسرائيلية، وأعلنت إسقاط طائرة إسرائيلية بدون طيار داخل أجوائها، لأول مرة، بدا أن تل أبيب فقدت احتكار المبادرة العسكرية في المنطقة.
اليوم التاسع إلى الثاني عشر: وساطات دولية وانكسار الردع
خلال الأيام الأخيرة من المواجهة، كانت العواصم العالمية في سباق محموم لتجنب توسع الحرب، واشنطن ولندن وباريس ضغطت على تل أبيب لوقف التصعيد، بينما تحركت موسكو وبكين في خط موازٍ لاحتواء إيران.
وفي 25 أبريل 2024، وبعد 12 يومًا من القتال، أعلنت طهران رسميًا تعليق هجماتها على إسرائيل “حقناً للدماء”، بينما أكدت إسرائيل قبولها بوقف العمليات “استجابة للمبادرات الدولية”.
لكن خلف هذه البيانات الدبلوماسية، كان الشرق الأوسط قد تغيّر جذريًا.
فقد أثبتت إيران أنها قادرة على الوصول إلى العمق الإسرائيلي متى شاءت، وأظهرت هشاشة الردع الإسرائيلي أمام تحالف إقليمي واسع يمتد من طهران إلى صنعاء.
في المقابل، فقدت إسرائيل ما تبقى من صورتها كقوة لا تُقهر، إذ كشفت الحرب هشاشتها في مواجهة حرب متعددة الجبهات.
الأثر السياسي والعسكري على الصراع في غزة
النتيجة المباشرة لحرب أبريل كانت تحوّل ميزان القوى السياسي والإقليمي.
واشنطن اضطرت إلى إعادة تقييم استراتيجيتها في الشرق الأوسط، وأعلنت مراجعة لسياسة الدعم المفتوح لإسرائيل.
بينما وجدت تل أبيب نفسها معزولة أكثر من أي وقت مضى، في ظل احتجاجات داخلية ضخمة وانتقادات من أقرب حلفائها الأوروبيين، أما المقاومة الفلسطينية، فقد استفادت استراتيجياً من تلك الحرب، فانشغال إسرائيل في جبهة إيران جعلها تخفف ضغطها الميداني على غزة مؤقتاً، ما سمح بإعادة تنظيم الصفوف وإعادة بناء شبكة الأنفاق والدفاعات الداخلية.
كما منحت الحرب للمقاومة زخمًا معنويًا وسياسيًا غير مسبوق، إذ أصبحت “حماس” وحلفاؤها يُقدَّمون في الإعلام الإقليمي كجزء من محور إقليمي واسع قادر على تحدي الهيمنة الإسرائيلية – الأمريكية.
نهاية الحرب وبداية معادلة جديدة
انتهت حرب إيران وإسرائيل رسميًا في أواخر أبريل 2024، لكنها فتحت بابًا جديدًا للشرق الأوسط، بات واضحًا أن زمن الحروب الإسرائيلية الأحادية انتهى، وأن أي عدوان جديد على غزة لن يمر دون رد من أكثر من عاصمة.
منذ تلك اللحظة، لم تعد غزة وحدها في الميدان — بل أصبحت رمزًا لمعادلة جديدة في المنطقة: “إذا سقطت غزة، اشتعلت العواصم”.
حملات الضفة الغربية وتوسيع المستوطنات – الاحتلال يستغل الحرب لترسيخ مشروع الضم
بينما كانت الأنظار مركزة على دمار غزة وصمودها، كانت الضفة الغربية تعيش على وقع حملة إسرائيلية موازية أقل صخبًا إعلاميًا، لكنها لا تقل خطورة في أهدافها ونتائجها.
فمنذ السابع من أكتوبر 2023، استغلّ الاحتلال الإسرائيلي انشغال العالم بالحرب في غزة ليطلق أوسع عملية أمنية واستيطانية في الضفة منذ عقدين، تحت ذريعة “مكافحة الإرهاب” و”منع تمدد نفوذ حماس”.
حملات عسكرية غير مسبوقة
خلال عامي 2024 و2025، نفذت قوات الاحتلال آلاف المداهمات الليلية في مدن وقرى الضفة، خاصة في جنين ونابلس وطولكرم والخليل، حيث انتشرت وحدات النخبة الإسرائيلية مدعومة بطائرات مسيّرة ومدرعات ثقيلة.
شملت العمليات اعتقالات جماعية استهدفت كوادر المقاومة وطلاب الجامعات والصحفيين والنشطاء، فيما تم تدمير منازل ومقارّ وممتلكات مدنية تحت ذريعة “الأمن الوقائي”.
تحولت مناطق مثل مخيم جنين ومخيم بلاطة إلى ساحات اشتباك شبه يومية، حيث واجه المقاتلون الفلسطينيون القوات الإسرائيلية بأسلحة محلية الصنع وتكتيكات مقاومة حضرية متطورة، ما دفع الاحتلال إلى توسيع عملياته الجوية داخل مدن الضفة لأول مرة منذ الانتفاضة الثانية.
الضفة كجبهة موازية
مع استمرار المقاومة في غزة، حاولت إسرائيل منع انتقال “نموذج طوفان الأقصى” إلى الضفة الغربية، لكنها فشلت في إخماد الروح الثورية، إذ شهدت مدن الضفة تصاعدًا كبيرًا في العمل المقاوم، من العمليات الفردية إلى الكتائب المحلية المنظمة التي أعلنت ولاءها للمقاومة في غزة.
هذا التحول جعل الاحتلال يعتبر الضفة “قنبلة موقوتة”، وأدى إلى زيادة التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في محاولة لاحتواء الوضع، وهو ما أثار استياءً شعبيًا واسعًا بين الفلسطينيين.
توسيع المستوطنات وفرض الوقائع على الأرض
بالتوازي مع الحملة العسكرية، أطلقت الحكومة الإسرائيلية بقيادة اليمين المتطرف خطة توسّع استيطاني غير مسبوقة، في الوقت الذي كانت فيه الطائرات تدكّ غزة، كانت الجرافات تشقّ طرقًا جديدة للمستوطنين في الأغوار الشمالية وجنوب نابلس وشرقي القدس.
تمت المصادقة على بناء أكثر من 18 ألف وحدة استيطانية جديدة خلال عامي 2024 و2025، في خطوة وصفها مراقبون بأنها “الضم الزاحف” الذي يسعى لتصفية حلم الدولة الفلسطينية من الداخل، وترافق ذلك مع تهجير قسري لمئات العائلات الفلسطينية من مناطق “ج” بحجة الأمن، في حين زادت اعتداءات المستوطنين على القرى والمزارعين تحت حماية الجيش.
هدف سياسي بغطاء أمني
لم تكن هذه التحركات مجرد إجراءات ميدانية، بل جزء من رؤية استراتيجية إسرائيلية تستغل الحرب على غزة لتثبيت واقع جديد في الضفة.
اليمين الإسرائيلي، مدعومًا بحلفائه داخل حكومة نتنياهو، رأى في انشغال المجتمع الدولي بالحرب فرصة ذهبية لفرض مشروع “إسرائيل الكبرى” على الأرض، وقطع الطريق نهائيًا على أي تسوية سياسية مستقبلية.
وفي المقابل، اعتبر الفلسطينيون ما يجري في الضفة الغربية وجهاً آخر للعدوان نفسه، إذ تسعى إسرائيل إلى تفريغ الأراضي من سكانها وإعادة تشكيل الخريطة الديمغرافية بما يخدم مشروع الضم الدائم.
الضفة المقاومة الصامتة
ورغم القبضة الحديدية، ظلت الضفة الغربية تغلي تحت الرماد، في كل عملية اقتحام، كانت تظهر مجموعات جديدة، وفي كل قرية يهدمها الاحتلال، تنطلق مظاهرة جديدة، تحولت مدن الضفة إلى مختبر جديد للمقاومة الشعبية والمسلحة، رافعة شعار “القدس أولاً وغزة ليست وحدها”، وهكذا أصبحت الحرب على غزة وقوداً لانتفاضة بطيئة ولكنها متواصلة، أعادت رسم العلاقة بين الاحتلال والشعب الفلسطيني من جديد.
استهداف وفد حماس في قطر – الحرب تتجاوز الحدود
في 9 سبتمبر 2025، تجاوزت آلة القتل الإسرائيلية كل الخطوط الحمراء، حين نفذت غارة جوية دقيقة استهدفت منطقة كتارا في قلب الدوحة، العاصمة القطرية، في حادثة غير مسبوقة داخل دولة خليجية مستقرة.
أدى الهجوم إلى مقتل وجرح عدد من الأشخاص، بينهم شرطي قطري كان يشارك في تأمين الموقع، وهو ما أثار غضبًا عربيًا ودوليًا واسعًا واعتُبر انتهاكًا سافرًا لسيادة دولة قطر وللقانون الدولي.
عملية نوعية بجرأة سياسية خطيرة
بحسب تقارير استخباراتية غربية، استخدمت إسرائيل طائرة مسيّرة بعيدة المدى انطلقت من قاعدة سرية في البحر، ونفذت الضربة في غضون ثوانٍ، مستهدفة سيارة يُعتقد أنها تقلّ أعضاء من وفد حماس المكلّف بالمفاوضات غير المباشرة حول صفقة تبادل الأسرى.
العملية حملت رسالة مزدوجة: تهديد مباشر لقيادة المقاومة، واستفزاز واضح للدول الوسيطة، خصوصًا قطر التي كانت تؤدي دورًا محوريًا في الوساطات الإنسانية والسياسية منذ بداية حرب غزة.
ردود فعل قطرية ودولية
أدانت قطر بشدة الاعتداء على أراضيها، واعتبرته “عدوانًا إرهابيًا” على دولة ذات سيادة ووسيطًا معتمدًا في جهود التهدئة.
وأكدت الدوحة أنها ستراجع ترتيباتها الأمنية وستُبقي على وساطتها “من منطلق مسؤوليتها الإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني”، رغم الضغوط المتزايدة ومحاولات إسرائيل إفشال أي مسار تفاوضي خارج سيطرتها.
كما عبّرت الأمم المتحدة والجامعة العربية عن قلقهما من تحول مسار الحرب إلى استهدافات عبر الحدود تهدد أمن المنطقة برمّتها.
حماس تردّ سياسياً وإعلامياً
بدورها، أكدت حركة حماس أن الغارة لن تثنيها عن مواصلة عملها السياسي والدبلوماسي، وأنها تدير ملفات المفاوضات والأسرى والمساعدات بكفاءة واحترافية رغم الملاحقة المستمرة.
وقالت في بيان رسمي إن “الاحتلال يظن أن الاغتيال يمكن أن يوقف مسيرة المقاومة، لكنه في الحقيقة يفضح عجزه عن كسر إرادة شعبنا”، مشيرة إلى أن الوفد المستهدف لم يكن يحمل أي طابع عسكري بل كان في إطار تحرك دبلوماسي بحت.
دلالات سياسية وأمنية عميقة
أعاد استهداف الوفد في الدوحة طرح أسئلة جوهرية حول حدود الصراع، ومدى استعداد إسرائيل لتحمل تبعات نقل الحرب إلى أراضٍ عربية طالما حافظت على الحياد النسبي.
ورأى محللون أن العملية تمثل تحولاً استراتيجياً في سياسة الاغتيالات الإسرائيلية، حيث لم تعد مقتصرة على غزة أو لبنان أو سوريا، بل امتدت إلى العمق الخليجي في محاولة لترهيب الوسطاء وتضييق الخناق على المقاومة سياسيًا.
لكنّ النتيجة جاءت معاكسة، إذ تعززت مكانة حماس كفاعل سياسي إقليمي قادر على الصمود والمناورة رغم الضربات، فيما تعمّقت عزلة إسرائيل الدبلوماسية حتى بين حلفائها التقليديين.
الحرب على العقول قبل الميدان
مثّلت هذه الغارة إحدى حلقات “الحرب على العقول” التي تخوضها إسرائيل ضد قيادات المقاومة في الخارج، بعد أن فشلت في تحقيق أهدافها داخل غزة.
فمن اغتيال صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت، إلى محاولة استهداف وفد حماس في الدوحة، يبدو أن الاحتلال يسعى إلى شلّ القيادة السياسية للمقاومة وحرمانها من إدارة المعركة عبر القنوات الدبلوماسية.
إلا أن نتائج هذه السياسة جاءت عكسية: إذ عزّزت وحدة الصف داخل الحركة، وأكدت للعالم أن المعركة لم تعد جغرافية فقط، بل صراع إرادات يمتد من غزة إلى العواصم العربية.
الاعتراف الدولي بدولة فلسطين – صمود غزة يُعيد رسم الخريطة الدبلوماسية
في يونيو 2025، شهد العالم تحولًا تاريخيًا حين أعلنت الأمم المتحدة أن عدد الدول المعترفة رسميًا بدولة فلسطين بلغ 157 دولة من أصل 193 عضوًا، في أكبر موجة اعتراف منذ قيام المنظمة الدولية. جاء ذلك تتويجًا لتحوّل سياسي عميق فرضته عامان من الصمود الأسطوري لغزة والمقاومة الفلسطينية في مواجهة العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ 7 أكتوبر 2023.
كانت البداية من أوروبا الغربية، حين أعلنت كل من إسبانيا وأيرلندا والنرويج وسلوفينيا في مايو 2024 اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، لتفتح الباب أمام دول أخرى – بينها المكسيك، أستراليا، البرتغال، وبلجيكا – للانضمام إلى الموجة خلال عام 2025.
الحدث الأبرز كان في يونيو 2025، عندما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعتراف بلاده رسميًا بدولة فلسطين، مؤكدًا في خطاب أمام البرلمان أن "السلام الدائم في الشرق الأوسط يبدأ من الاعتراف بحق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة".
اعتبر محللون تلك الخطوة نقطة تحول في الموقف الغربي، إذ كسرت باريس حاجز الصمت الأوروبي الطويل، وأعادت التوازن إلى المشهد الدبلوماسي بعد سنوات من الانحياز لإسرائيل.
جاءت هذه الموجة الدبلوماسية استجابةً لزلزال إنساني وسياسي أحدثته حرب غزة، حيث تحوّل الصمود الفلسطيني إلى أداة ضغط دولي، وأجبر حكومات كبرى على مراجعة مواقفها التاريخية. فالمجازر، والمشاهد اليومية للقصف والدمار، فجّرت موجة تعاطف عالمية غير مسبوقة، امتدت من الجامعات الأمريكية إلى البرلمانات الأوروبية، لتعيد القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام العالمي.
بهذا التحوّل، لم تعد غزة مجرد جرح مفتوح في جسد الأمة، بل أصبحت قوة سياسية تصنع التحولات وتعيد تعريف العلاقات الدولية. ومن تحت الركام، وُلدت خريطة جديدة للشرق الأوسط تُكتب هذه المرة بلغة الدم والكرامة لا بلغة الصفقات والمؤتمرات.
الهدن والمفاوضات – من وقف النار إلى خطة ترامب للسلام (2023–2025)
من الميدان إلى الطاولة... كيف تحولت الحرب إلى معركة دبلوماسية مفتوحة
البداية: هدنة تحت النار (نوفمبر 2023)
مع دخول الحرب شهرها الثاني، وتحوّل غزة إلى أنقاض بفعل القصف الإسرائيلي المتواصل، بدأت الضغوط الدولية تتصاعد بوتيرة غير مسبوقة على حكومة تل أبيب.
في أواخر نوفمبر 2023، وتحت ضغط إنساني وشعبي عالمي، أعلنت واشنطن والدوحة والقاهرة عن أول هدنة إنسانية محدودة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية.
كانت الهدنة تهدف إلى تبادل الأسرى وإدخال المساعدات الإنسانية، لكنها سرعان ما كشفت عن بوادر مسار تفاوضي سياسي طويل سيتحول لاحقًا إلى سلسلة من المباحثات غير المباشرة امتدت لعامين كاملين.
المشهد الدولي: شرخ في التحالفات وضغط شعبي غير مسبوق
بينما كانت المفاوضات تدور في العواصم، كانت صورة إسرائيل الدولية تتآكل بسرعة.
أصدرت الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية تقارير وصفت ما جرى في غزة بأنه "تطهير ممنهج وإبادة بطيئة"، فيما خرجت مظاهرات ضخمة في نيويورك، لندن، وباريس تطالب بوقف الدعم العسكري لإسرائيل ومحاسبة قادتها.
الشارع الغربي بدأ يرى في المقاومة رمزًا للمظلومية والعدالة، بينما وجد البيت الأبيض نفسه أمام انقسام داخلي حاد:
• جناح يطالب بالاستمرار في دعم إسرائيل بلا شروط.
• وجناح آخر، داخل الحزب الديمقراطي نفسه، يحذر من أن واشنطن "تفقد ما تبقى من نفوذها الأخلاقي في الشرق الأوسط".
بحلول نهاية 2024، وتحت ضغط الكونغرس والرأي العام، قلّصت واشنطن شحنات الأسلحة إلى إسرائيل في خطوة رمزية لكنها شكلت مؤشرًا واضحًا على تحول المزاج الأمريكي.
2025: من الميدان إلى المفاوضات – ولادة "خطة ترامب"
مع مطلع عام 2025، كانت الحرب قد فقدت زخمها الميداني دون أن تحسم نتائجها.
الاقتصاد الإسرائيلي يترنح، والمجتمع يعيش انقسامًا داخليًا حادًا، والمعارضة في تل أبيب تطالب برحيل بنيامين نتنياهو.
في هذه الأجواء، عاد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى الواجهة بعد فوزه في الانتخابات، مستغلًا حالة الفوضى الإقليمية ليطرح ما سماه "سلام الشرق الأوسط العظيم"، وهو نسخة معدلة من صفقة القرن التي فشل في تمريرها عام 2020.
في مارس 2025، أعلن ترامب رسميًا عن خطة سلام جديدة تتكون من 20 بندًا، أبرزها:
1. وقف شامل لإطلاق النار في غزة مقابل نزع سلاح المقاومة.
2. إدارة انتقالية لقطاع غزة بإشراف تحالف عربي – أمريكي تشارك فيه مصر، الأردن، والسعودية.
3. تطبيع شامل بين إسرائيل وعدد من الدول العربية الجديدة مقابل ضمانات أمنية أمريكية لإسرائيل.
4. تعويضات مالية للفلسطينيين بقيمة 50 مليار دولار من صندوق دولي تديره واشنطن والرياض.
الرفض الفلسطيني والعربي للخطة
قوبلت الخطة برفض شامل وسريع من كافة الفصائل الفلسطينية.
وصفتها المقاومة بأنها "استسلام سياسي مغطى بالدولارات"، معتبرة أنها محاولة لإجهاض نتائج "طوفان الأقصى" على المستوى السياسي.
أما السلطة الفلسطينية، فصرّحت رسميًا أن "أي خطة لا تضمن قيام دولة مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، مرفوضة جملة وتفصيلًا".
حتى بعض الدول العربية الحليفة لواشنطن أبدت تحفظًا واضحًا، مؤكدة أن الخطة تحاول "دفن القضية الفلسطينية تحت شعارات التنمية والاستثمار"، دون معالجة جذور الصراع.
الفشل السياسي وعودة النار تحت الرماد (منتصف 2025)
مع مرور الشهور، بدأت خطة ترامب تفقد زخمها قبل أن تُولد فعليًا.
تعثّرت الاجتماعات في القاهرة والدوحة، واستؤنفت المعارك مجددًا في مارس 2025 في شمال وغرب غزة.
في الضفة الغربية والقدس، تصاعدت عمليات المقاومة الفردية والمنظمة، بينما فتحت جبهة لبنان واليمن من جديد على وقع ضربات متبادلة، أعادت المنطقة إلى حالة "اللاحرب واللاسلم".
ورغم الدمار الهائل، خرجت غزة من عامين من الحرب أكثر قوة وصمودًا:
• المقاومة بقيت صامدة، وأثبتت قدرتها على فرض نفسها كطرف لا يمكن تجاوزه في أي تسوية.
• إسرائيل خرجت منهكة سياسيًا وعسكريًا، بجيش فقد هيبته، وحكومة فقدت ثقة الداخل والخارج معًا.
في المقابل، كان العالم يشهد تحولًا في الوعي الدولي: من رؤية غزة كملف إنساني إلى اعتبارها قضية سياسية مركزية في إعادة تشكيل موازين القوة في الشرق الأوسط.
عامان غيّرا وجه الشرق الأوسط
بعد مرور عامين على عملية “طوفان الأقصى”، لم تعد المنطقة كما كانت.
تلاشت أوهام التفوق الإسرائيلي، وبرزت محاور جديدة ترسم خريطة الشرق الأوسط على أساس المقاومة والتحالفات الميدانية.
في المقابل، أثبتت غزة أنها ليست مجرد ساحة حرب، بل بوصلة سياسية وأخلاقية تعيد تعريف معنى الصمود في وجه القوة الغاشمة.
اليوم، في الذكرى الثانية للسابع من أكتوبر، يمكن القول إنّ الحرب لم تنتهِ، لكنها أعادت كتابة التاريخ من جديد — تاريخ يقول بوضوح إن الشعوب لا تُهزم مهما بلغت قوة الطغاة.
التحولات الإقليمية بعد الحرب.. سقوط الهيمنة الإسرائيلية وصعود محور المقاومة
بعد مرور عامين على عملية طوفان الأقصى، لم تعد المنطقة هي نفسها.
فالهجوم الذي انطلق من غزة في فجر 7 أكتوبر 2023 لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل زلزالًا استراتيجيًا غيّر بنية القوة في الشرق الأوسط.
إسرائيل التي طالما قدّمت نفسها كـ “الجيش الذي لا يُقهر” وجدت نفسها في مواجهة واقع جديد: جبهات متعددة، مقاومة متماسكة، ومحور إقليمي يتّسع سياسيًا وعسكريًا كل يوم.
انهيار صورة الردع الإسرائيلي
منذ تأسيسها، بنت إسرائيل عقيدتها العسكرية على مبدأ “الضربة الاستباقية” والقدرة على نقل المعركة إلى أرض الخصم، لكن طوفان الأقصى قلب هذه المعادلة رأسًا على عقب.
لأول مرة منذ عقود، دخلت المعركة إلى العمق الإسرائيلي، ووصلت وحدات المقاومة إلى المستوطنات والمدن الحدودية في مشهد لم تتوقعه المؤسسة الأمنية.
عجز الجيش الإسرائيلي عن السيطرة السريعة أعاد إلى الواجهة أزمة الثقة داخل المجتمع الإسرائيلي، التي تفاقمت لاحقًا مع الانقسامات السياسية والاحتجاجات على أداء القيادة.
وبعد عامين من الحرب، لم تنجح إسرائيل في تحقيق هدفها المعلن بـ “القضاء على حماس”، بل وجدت نفسها تغرق أكثر في مستنقع غزة والضفة والحدود الشمالية.
صعود محور المقاومة من غزة إلى بيروت وصنعاء وطهران
في المقابل، شهد محور المقاومة اتساعًا غير مسبوق في التنسيق والفاعلية.
فمن لبنان إلى اليمن، ومن العراق إلى إيران، ظهر جيل جديد من الفاعلين الذين يرون في طوفان الأقصى بداية مرحلة جديدة من توازن الردع الإقليمي.
أعلن حزب الله اللبناني “حرب الإسناد” من اليوم التالي للعملية، ففتح جبهة الشمال واستنزف الجيش الإسرائيلي على مدار عامين.
وفي البحر الأحمر، نفذت أنصار الله (الحوثيون) سلسلة من الهجمات النوعية على السفن المرتبطة بإسرائيل، ما جعل من اليمن لاعبًا إقليميًا مؤثرًا في المعادلة الأمنية للبحر الأحمر.
أما إيران، فخرجت من الظل إلى المواجهة المباشرة، حيث شهد أبريل 2024 اندلاع حرب الـ12 يومًا بين طهران وتل أبيب، في سابقة تاريخية أنهت عمليًا احتكار إسرائيل لقرار الحرب في المنطقة.
تراجع النفوذ الأمريكي وتبدّل خريطة التحالفات
بالتوازي مع تصاعد الصراع، تآكلت هيبة الولايات المتحدة كقوة ضامنة لأمن إسرائيل.
فقد كشفت الحرب عن حدود الدعم الأمريكي وقدرته على ضبط الأزمات المتعددة.
ومع تزايد الكلفة العسكرية والسياسية للدعم غير المشروط لإسرائيل، بدأت أصوات داخل الكونغرس الأمريكي تطالب بمراجعة شاملة للسياسة الخارجية.
في المقابل، تعزز الدور الروسي والإيراني والصيني في ملفات المنطقة، لتتحول القضية الفلسطينية من شأن محلي إلى ساحة صراع جيوسياسي بين المعسكرين الشرقي والغربي.
ميزان قوى جديد يولد من رحم غزة
بنهاية عام 2025، بات واضحًا أن الشرق الأوسط لم يعد كما كان قبل السابع من أكتوبر.
إسرائيل لم تعد قادرة على فرض معادلتها الأمنية القديمة، بينما أصبح محور المقاومة أكثر ثقة وتنظيمًا وتنسيقًا.
غزة، التي أرادوا محوها من الخريطة، تحولت إلى رمز لبزوغ مرحلة عربية جديدة، قاعدتها أن المقاومة لم تعد خيارًا بل واقعًا سياسيًا وعسكريًا يفرض شروطه على الجميع.
وفي المحصلة، يمكن القول إن طوفان الأقصى لم يكن نهاية مرحلة بل بداية زمن جديد — زمن تتراجع فيه الهيمنة الإسرائيلية والأمريكية أمام صعود إرادة الشعوب ومحور المقاومة الذي أعاد تعريف معنى القوة في المنطقة.